خبراء سياسة أميركا الداخلية وتأثير حرب إسرائيل ضدّ غزة عليها، يلفتون إلى “تصدّع” غير مسبوق في تماهي واشنطن مع الدولة العبرية. يدعو هؤلاء إلى تلقّف الدول العربية هذا التطوّر بالتشدّد في مطالبة جو بايدن بوقف حرب غزة وتغليب خيار الدولة الفلسطينية.
هل الخلاف الأميركي الإسرائيلي مؤقّت وشكليّ ما دامت واشنطن تواظب على تأييد هدف الدولة العبرية تفكيك بنية “حماس” العسكرية والسلطوية بغزّة، أم جدّيّ؟ وهل يؤدّي خلاف بايدن ومؤيّدي إسرائيل في الحزب الديمقراطي مع بنيامين نتنياهو إلى تساهل مع المطالب العربية؟ ما العلاقة بين اجتماع اللجنة السداسية العربية في القاهرة أوّل من أمس مع وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن، وبين تصاعد الانتقادات في أميركا لإسرائيل؟
هذه الأسئلة فرضت نفسها على الرغم من قناعة النخب العربية بعدم الغرق في أوهام المراهنة على تغيير التباينات الأميركية الإسرائيلية لمجرى الحرب. لكنّ تأثير فظاعات إسرائيل ضدّ الفلسطينيين بارتكابها أفعالاً ترقى إلى الإبادة الجماعية، على بايدن في الانتخابات الرئاسية فرض عليه تمايزاً مع نتنياهو.
يسجّل المتابعون لتاريخ التحالف الأميركي الإسرائيلي وتعرّجاته وقائع جديدة بسبب خلاف الجانبين على طريقة إدارة الحرب على غزة، ومنها:
موقف شومر غير مسبوق..
أوّلاً: يقول أحد وزراء الخارجية العرب لـ “أساس” إنّ ما صرّح به رئيس الأغلبية الديمقراطية في مجلس الشيوخ الأميركي تشاك شومر ضدّ نتنياهو تطوّر غير مسبوق. إذ دعا في 14 آذار إلى انتخابات إسرائيلية. معتبراً أنّ “تحالفاً يقوده نتنياهو لم يعد يلبّي حاجات إسرائيل بعد السابع من أكتوبر (تشرين الأول)”. ورأى أنّ رئيس الوزراء الإسرائيلي “ضلّ طريقه ويقف عائقاً أمام السلام، وخضع لمطالب المتطرّفين”، وأنّ إسرائيل ستفقد الدعم. يلفت الوزير الملمّ بالسياسة الأميركية الداخلية التي عايشها عند عمله في واشنطن، إلى أنّ السناتور شومر مؤيّد تاريخي لإسرائيل. ويتبوّأ أعلى منصب استطاع يهودي بلوغه في الكونغرس كزعيم للأغلبية الديمقراطية في المؤسّسة التشريعية الأميركية. وموقفه له وزن وضربة للنفوذ الإسرائيلي فيها. ويؤثّر في الناخبين اليهود الذين تميل أكثريّتهم تاريخياً إلى الديمقراطيين.
سبقت اجتماع وزراء خارجية السداسية العربية مع بلينكن في القاهرة، تسريبات عن نيّة الطلب إليه الذهاب إلى مجلس الأمن
صحيح أنّ الخارجية الأميركية تبرّأت من تصريح شومر، على أنّه ليس سياسة الدولة الأميركية. لكنّ بايدن سبقها إلى اعتبار ما قاله “جيّداً”. وأدّى التصريح غرضه لأنّ نتنياهو شعر بفداحة الموقف عليه فأخذ يتنازل ولو لفظيّاً، بإبداء الاستعداد لضمان إخراج النازحين المدنيين من رفح قبل اقتحامها.
التبرّم الأميركيّ لم يأتِ من عدم
ثانياً: يعلّق سفير لبناني سابق في واشنطن على خلاف بايدن وشومر مع نتنياهو بأنّ قادة يهود الولايات المتحدة الأميركية يتململون منذ سنوات من الطبقة الحاكمة في إسرائيل. وهؤلاء ينصحون القادة الإسرائيليين منذ ثلاثة عقود بأنّ مصلحة الدولة العبرية السلام مع جيرانها الإقليميين. منطق اللوبي اليهودي هذا واكب مؤتمر مدريد للسلام، ثمّ اتفاق أوسلو في تسعينيات القرن الماضي. تطبيقه الأعرج من الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة خلق قناعة لدى اللوبي بأنّ العلاقة مع الدولة العبرية قد تصل إلى درجة أن لا يعود اللوبي قادراً على احتمال تطرّف قادتها. موقف بايدن وشومر لم يأتِ من عدم. وله صدى داخل إسرائيل لمجرد تركيز زعيم المعارضة يائير لابيد على ضرورة الانتخابات لتغيير نتنياهو. وله انعكاسات داخل الائتلاف الحكومي ظهرت في تباينات الوزيرين في مجلس الحرب ورئيسَي الأركان السابقين بيني غانتس وغادي آزنكوت.
صدى الخلاف داخل الجيش
ثالثاً: الأهمّ وفق السفير نفسه هو صدى الخلاف الأميركي مع نتنياهو داخل الجيش، الناقم على تعريض قادته له للانتقاد أثناء المعركة. يضاف إليه الخلاف الصامت بين نتنياهو وبين وزير الدفاع يوآف غالانت، لإهماله خطة اليوم التالي للحرب ضدّ غزة. وانتقال المخاوف من مسايرة نتنياهو لجموح حلفائه في الائتلاف الحاكم إلى ضباط النخبة مسألة جوهرية. هؤلاء لهم احترامهم في المجتمع ويدركون الدور الحاسم للدعم الأميركي في مستقبل الدولة العبرية. وكان للتسريب عبر صحيفة “معاريف” بأنّ البنتاغون أخذ يؤخّر تسليم شحنات أسلحة وذخيرة متّفق عليها سلفاً للجيش، دلالة خطيرة.
اللجنة السداسية العربية تضمّ السعودية، مصر، الأردن، قطر، الإمارات العربية المتحدة والسلطة الوطنية الفلسطينية
تزامن ذلك مع مطالبة مشرّعين أميركيين بوقف تزويد إسرائيل بالسلاح، ثمّ بصدور قانون لمراقبة وجهة استعمال الأسلحة الأميركية المصدّرة للخارج. وعلى البنتاغون.والخارجية مراقبة تنفيذه. وجاء قرار كندا بوقف تزويد إسرائيل بالسلاح مؤشّراً إلى إمكان تنفيذ التلويح الأميركي. فواشنطن ليست بعيدة عن قرار أوتاوا في هذا الصدد، بهدف إظهار تصميمها على خطوة مماثلة في حال لم يستمع نتنياهو لرأيها في المخارج من الحرب.
ائتلاف لمواجهة “إيباك” تطوّر غير مسبوق
رابعاً: أُعلن في واشنطن تشكيل ائتلاف من 20 منظمة أميركية تضمّ هيئات يهودية، ضدّ اللوبي الصهيوني الداعم لإسرائيل في الكونغرس منذ عقود.”إيباك” المنظّمة الشهيرة هي “اللجنة الأميركية الإسرائيلية للشؤون العامة”. وتضمّ كبار المتموّلين والنافذين والمشاهير اليهود في الولايات المتحدة، وهي قوّة الضغط الحاسمة لمصلحة إسرائيل. وتلعب دوراً في الانتخابات العامّة الأميركية، ومعيارها تمويل ودعم المرشّحين المؤيّدين لإسرائيل. ودورها تهشيم وتحطيم سمعة من يجرؤ على التلكّؤ في دعم الدولة العبرية، في وسائل الإعلام التي يسيطر أقطاب فيها على معظمها.
يعتبر دبلوماسيون عرب خبروا تأثير “إيباك” أنّ تشكيل الائتلاف الجديد تحت شعار “ارفض إيباك” تطوّر غير مسبوق. وهو يتشكّل من مجموعات يسارية بعضها يهودي سبق أن أثبت حضوراً سياسياً. من المنظمات المنضوية فيه “ديمقراطيّو العدالة” و”حزب العائلات العاملة”. تضاف إليها مجموعات تركّز على حقوق الفلسطينيين، ومنها “الحركة الأميركية من أجل حقوق الفلسطينيين”. حركة “إذا لم يكن الآن”، “الصوت اليهودي من أجل السلام”. وتعتبر المسؤولة السياسية في “الصوت اليهودي” بيث ميلر أنّ تشكيل الائتلاف بين المنظمات التقدّمية ذو مغزى كبير يردّ على التهديد الذي تشكّله “إيباك” لنشاط المجموعات التقدّمية داخليّاً، ولحياة الفلسطينيين في فلسطين.
الائتلاف نشأ لمواجهة “إيباك” جمع 100 مليون دولار لشنّ هجوم ضدّ رجال الكونغرس التقدّميين الذين أصرّوا على وقف إطلاق النار في غزة.
يقول أحد وزراء الخارجية العرب لـ “أساس” إنّ ما صرّح به تشاك شومر ضدّ نتنياهو تطوّر غير مسبوق
وينتظر أن تستخدم “إيباك” أذرعها الانتخابية مع منظمة “المشروع المتّحد للديمقراطية” ضدّ هؤلاء المرشّحين. ونبّه بيان تأسيس الائتلاف إلى أنّ “رفض إيباك” خطوة مهمّة “على طريق إعادة الناخبين إلى صلب الديمقراطية”. كان المرشّحون الذين سعت “إيباك” إلى إسقاطهم يواجهون سابقاً بشكل إفرادي. وأمّا الآن فيمكن الاتّكاء على الائتلاف.
السّداسيّة العربيّة و”خطوات لا رجعة فيها”
بالموازاة كيف يمكن للموقف العربي أن يستثمر الخلاف الأميركي مع نتنياهو. وتبرُّم جزء من يهود أميركا من الدعم المتواصل لإسرائيل لمصلحة تحوُّل دوليّ حيال فلسطين؟
تتطلّع مصادر فلسطينية إلى إصرار الدول العربية الستّ على ترجمة عمليّة من واشنطن لوعودها بحلّ مستدام للقضية الفلسطينية عبر حلّ الدولتين، بقرار يصدر عن مجلس الأمن. فاللجنة السداسية العربية التي تضمّ السعودية، مصر، الأردن، قطر، الإمارات العربية المتحدة والسلطة الوطنية الفلسطينية. إطار نشأ في الرياض في 9 شباط الماضي استناداً إلى الرفض السعودي لأيّ تطبيع مع إسرائيل إذا لم تتحقّق مطالب منظمة التحرير الفلسطينية الراهنة والمستقبلية. أي وقف كامل للحرب ورفض تهجير الغزّيّين، وإدخال المساعدات الإنسانية إلى غزة… انتهاءً بقيام الدولة الفلسطينية على حدود 1967 وعاصمتها القدس… ووقف الاستيطان. وصفت الدول الستّ في حينها مطالبها بأنّها “خطوات لا رجعة فيها”.
سبقت اجتماع وزراء خارجية السداسية العربية مع بلينكن أول من أمس في القاهرة. تسريبات عن نيّة الطلب إليه الذهاب إلى مجلس الأمن وفق ورقة عربية للحلّ السياسي السلميّ. لكنّه انتهى إلى تشكيل لجنة خبراء تدرس “خطوات ملموسة”. بلينكن استبق اللقاء من الرياض حيث التقى وليّ العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان ووزير الخارجية الأمير فيصل بن فرحان آل سعود. بكلام أكّد فيه اقتراح بلاده مشروع قرار للمجلس بوقف “فوري ومستدام لإطلاق النار”، بدل وقف مؤقّت للنار. وهو ما أقلق نتنياهو، على الرغم من أنّ نائب المندوب الروسي وصف مشروع القرار بـ”الخديعة” لأنّه يربط وقف الحرب بالإفراج عن الرهائن.