من المبكر استخلاص استنتاجات من الحرب العربية الإسرائيلية الأخيرة. رغم ذلك، يعتقد غريغ كارلستروم، مراسل مجلّة “فورين أفيرز” في الشرق الأوسط، ومقرّه في دبي، أنّ القتال المستمرّ بين إسرائيل وحماس بدّد الكثير من الأساطير والتصوّرات الخاطئة الكبرى. ومنها أنّ القضية الفلسطينية ماتت. وأنّ التحالف الإسرائيلي – الخليجي الناشئ سيوفّر ثقلاً موازناً ضدّ إيران. والشرق الأوسط المنهكة بالصراعات ستركّز على خفض التصعيد وتعزيز النموّ الاقتصادي. وأنّ “شرق أوسط” ما بعد أميركا قد ظهر بالفعل.
يرى كارلستروم في مقال نشرته مجلّة “فورين أفيرز” أنّه “حتى 7 أكتوبر (تشرين الأول 2023) بدت استراتيجية “فرِّق تسُد” التي اتّبعتها إسرائيل تجاه الفلسطينيين ناجحة. بذل رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو جهده لتقويض السلطة الفلسطينية. ادّعى أنّ إسرائيل ليس لديها شريك فلسطيني مفاوض. كانت هناك جولات عرضية من القتال في غزة وهجمات منفردة في القدس والضفّة الغربية. وكان الاعتقاد أنّ الفلسطينيين كانوا مقموعين ومنقسمين جدّاً بحيث لا يمكنهم فعل أيّ شيء. وأنّ العالم فقدَ الاهتمام بقضيّتهم وبالشرق الأوسط. ولم تعُد الولايات المتحدة تريد التوسّط. وأنّ للصين والهند أولويّات أخرى. وأنّ بعض الدول العربية مهتمّة بعقد صفقات مع شركات التكنولوجيا الفائقة الإسرائيلية أكثر من الضغط من أجل إقامة دولة فلسطينية. ولم يكن هناك أيّ ضغط على إسرائيل لإنهاء احتلالها، الذي بدا أنّ من الممكن إدارته إلى أجل غير مسمّى بتكلفة قليلة”.
الشرق الأوسط المنهكة بالصراعات ستركّز على خفض التصعيد وتعزيز النموّ الاقتصادي. وأنّ “شرق أوسط” ما بعد أميركا قد ظهر بالفعل
يضيف كارلستروم أنّ “وجهة نظر نتنياهو تلك، التي شاركه فيها كثيرون آخرون، تبيّن أنّها كانت جدّ خاطئة. فبينما اعتقد الإسرائيليون أنّ بإمكانهم تجنّب القضية الفلسطينية. وأظهرت استطلاعات الرأي أنّ أغلبية اليهود الإسرائيليين يفضّلون الحفاظ على الوضع الراهن بدلاً من السعي إلى حلّ الدولتين. فوجئ الجميع بأنّ تجدّد الصراع جاء من غزة، وليس من الضفة الغربية، التي كانت (ولا تزال) بمنزلة برميل بارود. اعتقدت إسرائيل أنّ حماس فقدت الاهتمام بصراع واسع النطاق وأنّها تركّز على تعزيز حكمها في غزة. وكان من المفاجئ، وربّما حتى بالنسبة لها، أن تتمكّن في 7 أكتوبر من التسبّب في مثل هذا الهجوم وهذا العدد من الخسائر.
تربة قاحلة لأيّ تغيير
بالنسبة لكارلستروم، “كشفت عودة أطول صراع لم يتمّ حلّه في الشرق الأوسط إلى الحياة عن مغالطات أخرى:
– إنّ العلاقات الهادئة التي نشأت بين إسرائيل ودول الخليج منذ عام 2010 كانت مبنيّة على خوف متبادل من إيران. وأدّى الشعور بالمصلحة المشتركة إلى اتفاقيات أبراهام لعام 2020 والحديث عن التطبيع مع السعودية. رأت واشنطن في ذلك فرصة للهروب من الشرق الأوسط، وأنّ هناك حاجة أقلّ إلى القوات الأميركية لاحتواء إيران ووكلائها إذا تمكّنت إسرائيل ودول الخليج من القيام بهذه المهمّة وحدها. لكن اليوم تقاتل إسرائيل والتحالف، الذي تقوده الولايات المتحدة، وكلاء إيران في خمسة أماكن: غزة، العراق، لبنان، سوريا واليمن. ودول الخليج بعيدة عن الصورة. وبدلاً من ذلك، ضاعفت هذه الدول جهود الانفراج مع إيران.
كارلستروم أنّ الشرق الأوسط في مرحلة فراغ اليوم، فهو منطقة غير قطبية. لا أحد مسؤول فيها وعنها
– أغفل الأمل في إنشاء تحالف أمنيّ إقليمي ناشئ حقيقة أساسية تتعلّق بدول الخليج: وهي أنّها أهداف سهلة. فهي تعتمد على صادرات النفط لملء خزائنها. وعلى الواردات لإطعام سكّانها. وعلى البنية التحتية الضعيفة، مثل محطّات تحلية المياه، من أجل البقاء في منطقة غير مضيافة. على الرغم من مليارات الدولارات التي تنفقها هذه الدول على الأسلحة. إلا أنّ جيوشهما ليست قادرة جداً. ولا تتمتّع بخبرة كبيرة في ساحة المعركة. ربّما باستثناء الإمارات العربية المتحدة، التي كان أداء جيشها جيّداً نسبياً في القتال في جنوب اليمن. لكنّ حكومتها تكره استخدام هذا الجيش في صراع قد يمطر صواريخ على منتجعات دبي ذات الخمس نجوم.
خطأ في التقديرات الخليجية؟
– أخطأ المسؤولون في الخليج في حساباتهم الخاصّة. حتى 7 أكتوبر، كانوا يتحدّثون عن شرق أوسط متعدّد الأقطاب. كانت الولايات المتحدة مشتّتة بسبب الحرب في أوكرانيا، المنافسة مع الصين، والسياسة الداخلية الفوضوية. كانت شريكاً محبطاً وعرضة لتقلّبات سياسية غير منتظمة. وبالنسبة لهم، أثبتت روسيا أنّها حليف موثوق وفعّال من خلال إنقاذ النظام السوري. ولم تكن الصين بعد قوّة عسكرية في الشرق الأوسط، لكنّها كانت مصدراً لا ينضب للاستثمار، وعلى نحو متزايد، للأسلحة والتكنولوجيا. ولم تعد الولايات المتحدة دولة لا غنى عنها.
لكن مع ذلك، وفي خضمّ أسوأ أزمة تشهدها المنطقة منذ عقود، أصبحت روسيا والصين غير مرئيّتين. استخدما الصراع لتسليط الضوء على النفاق الغربي. لم تسرعا إلى ممارسة الدبلوماسية أو تقديم المساعدات أو دعم الأمن الإقليمي. وحتى عندما تتأثّر مصلحتهما الذاتية، فإنّهما لا يمكنهما (أو لا يريدان) لعب دور مهمّ. لم تهتمّ الصين بهجوم الحوثيين على السفن في البحر الأحمر الذي يعرّض التجارة مع أوروبا للخطر. لم ترسل سفناً حربية إلى المنطقة. وعلى الرغم من أنّها أكبر شريك تجاري لإيران، إلا أنّها لم تستخدم نفوذها لإقناع طهران بكبح جماح الحوثيين. بل اكتفت بمناشدتهم السماح للسفن الصينية بعبور البحر الأحمر دون مضايقة.
نفوذ الولايات المتحدة في طريقه إلى التضاؤل، لكنّ الصين وروسيا لم تصبحا بعد قوّتين في الشرق الأوسط
كما يعتقد كارلستروم أنّه كان من الواضح قبل 7 أكتوبر أنّ تدخّل روسيا في سوريا كان بمنزلة ذروة نفوذها الإقليمي. فهي عندما حاولت بعد ثلاث سنوات مساعدة خليفة حفتر، أمير الحرب الليبي، في الاستيلاء على طرابلس، أحبطت طائرات مسيّرة تركيّة هجومه. كما أنّ غزو أوكرانيا أدّى إلى استنفاد نفوذها بشكل أكبر. وبات لديها عدد أقلّ من الأسلحة لبيعها للحكّام العرب وأموال أقلّ للاستثمار في المنطقة. وأصبحت تولي اهتماماً أقلّ لأقرب حلفائها في الشرق الأوسط.
أمّا الصين فقد كان الإنجاز الدبلوماسي الوحيد الملحوظ لها في المنطقة، وفقاً لكارلستروم، هو تحقيق التقارب الإيراني السعودي. الذي كان يفترض أن يمثّل بداية حقبة جديدة من الهدوء الإقليمي. لكن وصلت الحروب الأهلية في ليبيا وسوريا واليمن إلى طريق مسدود. أدرك الحكّام الذين نجوا من الربيع العربي، أو خرجوا منه، أنّ عليهم التركيز على القضايا الماليّة. وذلك خشية أن تنتفض شعوبهم المضطربة مرّة أخرى. واعتقد العديد من المحلّلين أنّه بعد عقود من الاضطرابات، سيضع الجميع خلافاتهم جانباً ويحاولون بناء اقتصاداتهم وجعلها متكاملة.
صدّق المسؤولون الأميركيون هذه الرؤية المفعمة بالأمل، وشجّعها حكّام الخليج. لكن حتى قبل 7 أكتوبر، أثبتت الحقبة الجديدة من المجاملة الإقليمية أنّها قصيرة الأجل. فقد انزلق السودان إلى حرب أهلية مروّعة بعد أسابيع فقط من الاتفاق الإيراني السعودي. وتبيّن أنّ المنطقة المليئة بالدول الفاشلة والصراعات التي لم يتمّ حلّها أصبحت تربة قاحلة لزراعة أيّ شيء جديد.
ومنطقة غير قطبيّة
يعتبر كارلستروم أنّ الشرق الأوسط يتغيّر:
– نفوذ الولايات المتحدة في طريقه إلى التضاؤل، لكنّ الصين وروسيا لم تصبحا بعد قوّتين في الشرق الأوسط. لا تستطيع واشنطن إقناع إسرائيل بقبول حلّ الدولتين أو عودة السلطة الفلسطينية إلى غزة حتى الآن. فهي قويّة بما يكفي لإرسال حاملات الطائرات إلى شرق البحر الأبيض المتوسط وضرب الحوثيين والميليشيات العراقية. لكنّها ليست قويّة بما يكفي لردع تلك الميليشيات عن مهاجمة السفن التجارية أو القوات الأميركية.
دول الخليج لا تقف إلى جانب إسرائيل ضدّ إيران. إلا أنّها لا تصطفّ ضدّ إسرائيل أيضاً
ساعدت الولايات المتحدة في تجنّب الحرب بين إسرائيل والحزب في الأيام التي تلت 7 أكتوبر. وربّما أدّت ضرباتها على الحوثيين إلى إتلاف مخزونهم من الصواريخ المضادّة للسفن بشكل مؤقّت. لكنّها أبعد من ذلك، قوّة عاجزة، تلعب لعبة القطّ والفأر مع وكلاء إيران وتتوسّل إلى الحكومة الإسرائيلية المتمرّدة.
– حتى إذا كانت الولايات المتحدة مخطئة في تصوّرها بشأن تشكيل تحالف مناهض لإيران، فإنّ التحالف الإيراني نفسه يعاني من ضغوط. حماس التي ضربت إسرائيل دون استشارة رعاتها في طهران. رفض النظام الإيراني إطلاق العنان للحزب حتى لا يجرّ البلاد إلى حرب مع إسرائيل. كما تشعر إيران بالقلق إزاء تصرّفات وكلائها في العراق واليمن. فقد كان المقصود من “محور المقاومة” إبعاد الصراعات عن حدود إيران. لكنّ استخدام هذا المحور الآن يعني المخاطرة بإعادة هذه الصراعات إليها.
7 أكتوبر أطاح بالأوهام
– دول الخليج لا تقف إلى جانب إسرائيل ضدّ إيران. إلا أنّها لا تصطفّ ضدّ إسرائيل أيضاً. حافظت الإمارات على علاقاتها الدبلوماسية والتجارية مع إسرائيل. بل على رحلات جوّية منتظمة إلى تل أبيب من دبي وأبو ظبي. وشهدت البحرين احتجاجات مناهضة لإسرائيل. وأصدر برلمانها قراراً رمزياً بشأن قطع العلاقات مع إسرائيل، لكنّ نظامها تجاهل كلّ ذلك.
– عادت القضية الفلسطينية إلى جدول الأعمال من جديد، بتكلفة بلغت عشرات الآلاف من القتلى، لكن يبدو أنّها لم تحرز أيّ تقدّم.
يختم كارلستروم أنّ الشرق الأوسط في مرحلة فراغ اليوم، فهو منطقة غير قطبية. لا أحد مسؤول فيها وعنها. فالولايات المتحدة قوّة مهيمنة غير مهتمّة وغير فعّالة. ومنافسوها من القوى العظمى يشبهونها. لا تستطيع دول الخليج أن تملأ الفراغ. ولا تستطيع إسرائيل ذلك أيضاً. ولا يمكن لإيران إلا أن تلعب دور المفسد والمثير للمشاكل كلّ الوقت. والجميع يقف متفرّجاً، يعاني من المشاكل الاقتصادية وأزمات الشرعية. كان هذا هو الواقع حتى قبل 7 أكتوبر. ولم تفعل الحرب سوى أنّها أطاحت بالأوهام.