من موسكو..
“الإسلام هو الحلّ لأزمات العالم”… “ما يحصل عندنا ليس حرب حدود. إنّها حرب الشيطان على الكنيسة في عالمنا الراهن كلّه، كما أخبرتنا عنها الكتب”. “المستقبل هو لمشروع الحزام والطريق كما رسمته القيادة الحكيمة للزعيم شي”. “لا قوانين وضعية ولا دساتير بشرية. لا خلاص للإنسان إلا بالعودة إلى قانون الحقّ الطبيعي”. هذه المقولات ليست عرضاً لتناقضات الفكر البشري ومطارحاته الدوغماتية عبر قرون سالفة. إنّها بكلّ بساطة مجموعة من الأفكار المطروحة في مؤتمر واحد. في لحظة واحدة، قبل يومين. وفي مكان واحد، في موسكو. تحت عنوان “الحركة الدولية لمحبّي روسيا”. وتحقيقاً لهدف محدّد، هو إقامة نظام التعدّدية القطبية في العالم، بمواجهة نظام الأحادية القطبية الذي أقامته واشنطن.
المشهد مستعادٌ إلى حدّ كبير. هو نسخة محدثة ومجدّدة من مؤتمرات الكومنترن أو الشيوعية العالمية أو “الأممية الثالثة”، كما كان يسمّيها رفاق لينين. مشهدٌ تستحضره روسيا اليوم، بصيغة هجينة تبدو للوهلة الأولى متناقضة. قبل أن يوضح الصورة ويبلورها ويظهّرها، سوسلوف الثورة الجديدة، فيلسوف السياسة الروسية البوتينيّة، ألكسندر دوغين.
لكنّ المشهد في حدّ ذاته سوريالي إلى حدّ ما. خصوصاً لناحية جرأة تلك الفكرة على جمع هذه الأضداد من أجل هدف واحد:
الحلّ الإسلاميّ لأزمات الغرب
الشيخ حسين عمران من علماء الدين الإسلامي في جزر ترنيداد توباغو. جاء ليخاطب المؤتمر في روسيا “بلغة القرآن”، كما قال مرّات قليلة، بين عبارات ارتجاله بالإنكليزية. خلاصة كلامه أنّه يقدّم الإسلام حلّاً للعالم الغربي وأزماته ومآسيه. كيف؟ في آية واحدة: “يا أيّها الناس إنّا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا، إنّ أكرمكم عند الله أتقاكم. إنّ الله عليم خبير”. آية واحدة لحلّ كوارث الغرب اليوم كلّها:
– أوّلاً هناك ذكر وأنثى لا غير. وبالتالي لا ثورات جنسية أو مثليّة أو قوسقزحيّة.
– ثانياً خلق الناس قبائل وشعوباً. أي وفق نظام التعدّدية لا الأحادية.
– وثالثاً، لا “شعب مختاراً” ليحكم العالم. وبالتالي لا صهيونية عالمية أو مشتقّاتها السرّية وغير المنظورة. بل أكرمكم أتقاكم…
انتهى البحث عند الشيخ الجليل.
الشيخ حسين عمران من علماء الدين الإسلامي في جزر ترنيداد توباغو. جاء ليخاطب المؤتمر في روسيا “بلغة القرآن”
الكاهن: لماذا الحروب ضدّ “العائلة”؟
يخرج بعده ضيف مماثل في اللباس شكلاً، ولو مغاير تماماً في الهويّة والانتماء: كاهنٌ أرثوذكسي من قلب موسكو، عاصمة روسيا، بصوت تعبويّ جهوريّ عريض. تحدّث عن حرب أوكرانيا وحروب العالم. برأيه أنّها علامة من علامات الأزمنة المسيحانيّة لا غير. ولذلك المعركة ليست لتوسعة حدود دولة. ولا لزيادة نفوذ سلطة. ولا لمراكمة ثروات أو مقدّرات. وإلّا، بحسب رأيه، فما الذي يفسّر هذا التزامن بين حروب العسكر وحروب الإعلام والثقافة والدعاية وغسل الأدمغة، ضدّ “العائلة”، باسم الجندرية وملحقاتها ونسويّاتها وعابريها و”ميماتها”… قبل أن يعلن “المحترم” خلاصته ويطلق حكمه: نحن نواجه اليوم حرب الشيطان ضدّ الكنيسة. وهي الحرب التي تتمدّد في كلّ الأرض وكلّ نشاطات البشر. ونحن سنخوضها باسم الكنيسة حتى نقهر الشيطان!
الأسقف المتقاعد: من يدير العالم ضدّ الله؟
لم تكتف الخلطة الموسكوفية بهذا الجمع الضدّي العريض، بل زادت عليه كلمة متلفزة للأسقف الكاثوليكي كارلو ماريا فيغانو. وهو أسقف متقاعد، شغل سابقاً مركزاً إداريّاً في دولة الفاتيكان. كما عُيّن قاصداً رسولياً في الولايات المتحدة. لكنّه اصطدم بالبابا بنديكتوس ثمّ فرنسيس لأسباب، يقول “مريدوه”، إنّها مرتبطة بكشفه شبهات فساد داخل “الكوريا الرومانيّة”. كما بتنديده بالارتكابات الجنسية لبعض الإكليريكيّين.
فيما مناوئوه يعزون أسباب صدامه مع الكنيسة إلى كونه من الرافضين لانفتاحها على الديانات الأخرى بموجب مقرّرات المجمع الفاتيكاني الثاني. ومن المعارضين لقبول “الشؤون الحديثة”، مثل الديمقراطية. إيماناً منه بالتيوقراطية المسيحية القروسطيّة. لا بل يؤمن الأسقف المتقاعد بأنّ هناك من يحكم العالم من الظلّ ويحرّك البشرية ضدّ الله. مثل “سنهدرين دافوس” كما يسمّي الملتقى الاقتصادي العالمي.
لم يتأخّر فيغانو بالدعوة من قيصريّة بوتين، روسيا، إلى عودة النظام العالمي إلى مبدأ “القانون الطبيعي”. أي قوانين الله، ورفض القوانين الوضعية التي أوجدها البشر.
لم يتأخّر فيغانو بالدعوة من قيصريّة بوتين، روسيا، إلى عودة النظام العالمي إلى مبدأ “القانون الطبيعي”. أي قوانين الله، ورفض القوانين الوضعية التي أوجدها البشر
أكاديميّ صينيّ: خلاص شيوعيّ.. بـ”الحزام والطريق”
بعده تتالت فصول المسرح السورياليّ الكبير:
– أكاديمي صيني كبير يبشّر الأرض بالخلاص الشيوعي عبر “الحزام والطريق”.
– مندوب إفريقي يحيي صورة الثائر الأسمر باتريس لومومبا.
– ممثّل آخر من أميركا اللاتينية يستعيد لغة غيفارا وشعره الطويل حتى الجذور اللبنانية، من آل جبارة، كما اكتشف لنا المفكّر الفرنسي الكبير جيل كيبيل.
– تختلط الأفكار المتناطحة في المؤتمر، بكلام زرب لا ينتهي من الناطقة الأنيقة باسم الخارجية الروسية، ماريا زاخاروفا. وهي صاحبة الأجوبة المطوّلة والمضمون الضئيل حتى انعدام الجواب.
دوغين: نرفض هيمنة الغرب الرأسماليّ
لكن وحده دوغين، والد الفتاة الشهيدة التي سقطت ضحيّة استهداف رأسه وفكره ربّما، أعطى الجواب الشافي في كلمته. ففسّر كلّ هذه الخلطة وكيفية مزجها وسبل الخروج منها بخلاصة مثمرة ونتيجة مفيدة.
قال للمؤتمرين في روسيا ما مفاده، بكلّ بساطة: نحن نواجه هيمنة عالمية. هي هيمنة الغرب. ونحن نرفضها. منذ ثمانية عقود تريد هذه الهيمنة أن تفرض علينا كلّ شيء في حياتنا. باسم “عالمية” مفاهيمها المزعومة. والتي تشكّل مركبة لسيطرتها الإمبريالية على عالمنا. تريد أحادية الغرب أن تقول لنا إنّ هناك قيماً بشرية واحدة هي القيم الغربية لا غير. وإنّ هناك نظاماً سياسياً واحداً للعالم، هو الديمقراطية على الطريقة الجفرسونيّة الوستمنستريّة لا غير. ونظاماً اقتصادياً واحداً للعالم، هو الرأسمالية الليبرالية على قاعدة السوق لا غير. وثقافة واحدة هي ثقافة “ما بعد الحداثة”. ومثالاً واحداً للعائلة والجندر، هو نظام المثلية ومتفرّعاتها (LGBTQ). وسبيلاً واحداً لتطوّر البشرية، عبر الذكاء الصناعي وما بعده.
الغرب واحد من 8 حضارات
يخلص دوغين حاسماً: نحن نرفض ذلك كلّه. لأنّ هذا العقل هو مجرّد أداة سيطرة وتملّك، علينا وعلى إراداتنا ومقدّراتنا، كما على الأرض والمحيطات والفضاء…
قال دوغين للمؤتمرين في روسيا ما مفاده، بكلّ بساطة: نحن نواجه هيمنة عالمية. هي هيمنة الغرب. ونحن نرفضها
من هنا تولد وتُفهم فكرة دوغين لخلطته العجيبة. يقول: علينا أن نُفهم الغرب بكلّ ما نملك من قوّة، بأنّه واحدة من سبع أو ثماني حضارات. وأنّنا لا نريد إلغاءه. لكن نريد أن نفرض عليه قبول هذا الواقع والاعتراف به.
الغرب كلّه حضارة واحدة، إلى جانب حضارات “الصين الكبرى” و”الهند الكبرى” و”روسيا الكبرى”، وأوراسيا والعالم الإسلامي وإفريقيا وأميركا اللاتينية.
لكي نستطيع مواجهة هيمنة الغرب، على هذه الحضارات كلّها أن تتّحد ضمن فلسفة التعدّدية القطبية. لتصير واحداً في مواجهتها للغرب، ومتعدّدة في لغاتها ودياناتها وأنظمتها المختلفة.
استراتيجية موسكو: جمع الأضداد ضدّ واشنطن
من هنا تلك المشهدية المتنوّعة حتى التناقض في روسيا. المطلوب إذن جمع الأضداد. أو تكتّل كلّ المتضرّرين من واشنطن – روما الجديدة. وانتظامهم في السياسة والثقافة والإعلام وكلّ تفصيل حياتيّ. وحتى في العسكر والميدان والقوّة والعنف. ليقتنع ساكن البيت الأبيض ربّما، بأنّ الأرض بيت بمنازل كثيرة. وبأنّ “بيته” منزل واحد منها. وأنّه في نواحٍ كثيرة منه، مصنوع من زجاج هشّ عالي العطب.
بعد “رسالة” دوغين بدا الكلام مجرّد ترداد. تُليت رسالة “رئيسنا العظيم” فلاديمير بوتين، كما وصفه العديد من المتكلّمين. لكنّ الأساس ظلّ في كلام دوغين.
روسيا
جاء وزير خارجية روسيا المخضرم لافروف شخصياً. تحدّث عن مشاريع بلاده لتشييد عالم جديد بديل عن الغرب بكلّ بناه، من السياسة والاقتصاد حتى الموسيقى واللغة والإعلام. (ذلك المحصور في روسيا اليوم بشبكة تلغرام وحدها تقريباً، في ظلّ استحالة الوصول إلى فيسبوك وإنستا ومنصّة إيلون ماسك!) وظلّ التركيز والتحليل لمشروع دوغين المستند إلى فلسفة دوغين. هل تنجح؟ ألا تستحقّ المحاولة؟ وهل تفتح للبشرية خياراً ثالثاً أم تحمّلها خيبات ونكبات، كما ارتكبت أفكار أخرى مماثلة أو مغايرة منذ قرن وقرون؟
بعد “رسالة” دوغين بدا الكلام مجرّد ترداد. تُليت رسالة “رئيسنا العظيم” فلاديمير بوتين، كما وصفه العديد من المتكلّمين. لكنّ الأساس ظلّ في كلام دوغين
بلادٌ منذورة لحكمٍ من نوعٍ واحدٍ
تزدحم التساؤلات والصور. بلا جواب شاف. سوى تلك الخشية من أن يكون بعض الشعوب والبلدان مفطوراً بالجينات على حكم من نوع واحد. مهما تغيّرت الأزمنة وحتى الأجيال. وأن تكون روسيا، مثالاً عن ذلك، مرصودة دوماً لقيصرٍ ما. أكان من عائلة رومانوف، أو من بيت إيليتش أوليانوف أو من آل بوتين. كلّ الباقي تبرير عقلي لتلك الحتمية التاريخية!
في طريق العودة من المؤتمر، يتوقّف سائق التاكسي عند إشارة سير حمراء. إلى يساره مجمع تجاري كبير على اسم أوروبا، وإلى يمينه ساحة صغيرة أمام محطّة قطار الأنفاق. هناك بالذات اختار شابّ ملتحٍ أن يُظهر قدرات سيارته الفارهة، بدورات استعراضية مجنونة ومتهوّرة فوق ثلج شباط الموسكوفي، معرّضاً بلامبالاة سلامة العابرين للخطر.
ارتسمت سحابة حزن في عينيّ سائق التاكسي، وهو يتمتم مكرّراً كلمة واحدة: “يوغ”.
يترجم لك صديق مرافق: إنّه يقول “جنوب”. ويقصد بذلك تقديره بأنّ السائق المتهوّر هو من أبناء الجنوب. أي جنوب موسكو والجنوب الروسي عامّة. هم الذين نزحوا بكثافة إلى موسكو خصوصاً بعد حرب أوكرانيا. وبعد مأساة قائد فاغنر، بريغوجين، ووقوف زعيمهم قديروف إلى جانب بوتين بمواجهة انقلاب طبّاخه عليه، صار بعض هؤلاء يتصرّف في العاصمة الروسية بشيء من “فائض قوّة”… وهذا نموذج يومي بسيط، بحسب اعتقاد السائق العالق بين الموسيقى الإمبريالية الصادحة من المجمع التجاري، وبين زعيق سيارة الشابّ المستقوي.
لم يقُلها الرجل. ولم يترجمها الصديق. لكن قد يكون الخيار صعباً، إذا ما أرادت روسيا أن تختار بين ذاك “الشمال” وهذا “الجنوب”!