بعد أكثر من أربعة أشهر على عملية طوفان الأقصى وشنّ إسرائيل أعتى حرب عسكرية على قطاع غزة، تجدر قراءة كلّ مسارات الحرب فلسطينياً ولبنانياً انطلاقاً من جبهة المساندة المتلازمة على الإيقاع الغزّيّ. للقراءة مسارات متعدّدة أمنيّاً، عسكرياً وسياسياً. وهنا لا بدّ للكلام أن يكون واقعياً ليست فيه عاطفة أو مجاملة، سواء على الصعيد الفلسطيني أو اللبناني.
أوّلاً: فلسطينياً، من حيث الوقائع، تُشهَد لحركة حماس وجناحها العسكري القدرة العسكرية الاستثنائية التي تمكّنت بها من اقتحام المستوطنات الإسرائيلية وتوجيه ضرباتها، بالإضافة إلى أسر عشرات الإسرائيليين ضبّاطاً وجنوداً، مع الإقرار بأنّ تجاوزات حصلت في العملية أو لجهة الأسرى كالأطفال والنساء.
ثانياً: اعتمد الإسرائيليون بروتوكول هنيبعل خلال اقتحام حماس لمستوطنات غلاف غزة. (وهو بروتوكول يسمح بقتل الأسرى خلال الحرب). وساهم الإسرائيليون أنفسهم في عمليّات قتل إسرائيليين، وذلك لتكبير حجم المجزرة واتّهام حماس بها ولتحظى بتأييد الرأي العامّ العالمي، ولتبرير شنّ حرب همجية هدفها تدمير القطاع وتهجير أهله.
ثالثاً، مع الاجتياح الإسرائيلي لغزّة أظهرت حركة حماس قدرة على القتال والصمود والحفاظ على الجسم العسكري والتنظيمي، وتمكّنت من المقاومة وتوجيه ضربات قاسية للإسرائيليين، لكنّ ذلك لم يمنع مسار التدمير والتهجير والتقدّم في عمليات الاجتياح والتوغّل.
رابعاً، بقيت إسرائيل تستغلّ قدرة حماس على الصمود والاستمرار في إطلاق الصواريخ على تل أبيب ومحيطها، أو تنفيذ عمليات ضدّ القوات الإسرائيلية المتوغّلة لتقول إنّ الحركة لم تهزم عسكرياً، ولتبرّر الاستمرار في عمليّاتها ومجازرها لتحقيق الهدف الأبعد، وهو تهجير الغزّيّين وإنهاء أيّ مقوِّم من مقوّمات الحياة في القطاع. وهذا المسار مستمرّ من شمالي غزة إلى المدينة ووسط القطاع فخان يونس، والآن معركة رفح.
فلسطينياً، من حيث الوقائع، تُشهَد لحركة حماس وجناحها العسكري القدرة العسكرية الاستثنائية التي تمكّنت بها من اقتحام المستوطنات الإسرائيلية وتوجيه ضرباتها
عودة فلسطين إلى طاولة العالم
أمّا سياسياً، فإنّ ما أرادته حماس هو إعلاء القضية الفلسطينية وإعادة طرحها على الطاولة الدولية والإقليمية وإعادة الاعتبار لحقوق الفلسطينيين وأخذ حقوقهم الشرعية والطبيعية في أن تكون لهم دولة مستقلّة. عملياً، فإنّ ذلك قد حصل من حيث المبدأ، لكن لا يمكن معرفة النتائج حتى الآن، خصوصاً وسط إصرار إسرائيلي على الاستمرار في عمليات التهجير والتدمير وصولاً إلى رفح بدون إقامة أيّ اعتبار للمواقف الدولية.
في هذه الأثناء تتكثّف الحركة الدولية في سبيل الوصول إلى صيغة حلّ، وسط إعلان إسرائيلي بريطاني فرنسي بالاستعداد للاعتراف بالدولة الفلسطينية. لكنّ السؤال الأساسي يبقى: ما هي جغرافية هذه الدولة ومقوّمات إنشائها؟ أم سيكون المسار مشابهاً لمسار أوسلو؟ وبالتالي لا يلقى أيّ تطبيق فعليّ في ظلّ استمرار سياسة الاستيطان والاستعداد الإسرائيلي الدائم لتهجير المزيد من الضفة بعد القطاع؟
في السياسة أيضاً، فإنّ المعركة تحتّم إعادة إنتاج قيادة فلسطينية جديدة أو إعادة تشكيل السلطة الفلسطينية ومنظمة التحرير من خلال انضمام حركة حماس والجهاد إليها، ما دام الجوّ الدولي الآن لا يتيح لحماس أو الجهاد الدخول في أيّ مفاوضات دولية بعد ما جرى، ولا بدّ من إعادة مشروعية دولية لحماس من ضمن القيادة الفلسطينية الجديدة.
هناك شعور عربي عامّ متضامن مع حماس منذ عملية طوفان الأقصى، خصوصاً بالارتكاز على السوسيولوجيا العربية والسنّية بالتحديد التي كانت تبحث عن إنجاز أو انتصار عسكري بعد هزائم متوالية على مدى السنوات السابقة. لكن أيضاً يقابل ذلك سخطٌ عربي على النتائج التي آلت إليها الأوضاع في ظلّ الظروف المزرية التي يعيشها الفلسطينيون وعدم القدرة على الاستثمار السياسي بما تحقق في 7 أكتوبر (تشرين الأول 2023). التضامن العربي مع حماس والقضية الفلسطينية ليس بالأمر البسيط، لكنّ الحماسة في مكان ما قد تشكّل مدخلاً لكثيرين لضرب الأمن القومي العربي، وهو أكثر ما يتهدّد في هذه المرحلة مصر والأردن.
مصر والأردن: الإحراج نفسه في الحالتين
مصر تجد نفسها مطوّقة من كلّ الجهات، اقتصادياً أوّلاً، وشعبياً من خلال التعاطف الجماهيري مع الفلسطينيين، كما أنّها مطوّقة استراتيجيّاً بحرب السودان، والسدّ الإثيوبي، وصولاً إلى معارك غزة ومدينة رفح تحديداً. هناك من يصرّ على إحراج القاهرة التي تجد نفسها بين منزلتين: ففي حال فتحت المعبر أمام الفلسطينيين ستُتّهم بالمساهمة في تهجيرهم من أراضيهم، وبما أنّها بقيت مصرّة على إغلاقه فها هي تُتّهم بالسماح بالإبادة التي يتعرّض لها الفلسطينيون، وهذا سيدفع الفلسطينيين الى الدخول في مواجهة مع مصر. أمّا في حال إدخالهم إلى الأراضي المصرية فإنّ الهدف من ذلك هو خلق مشكلة اجتماعية مصرية فلسطينية. وما ينطبق على مصر قابل لأن ينطبق على الأردن لاحقاً، خصوصاً أنّه يتعرّض لضغوط إسرائيلية أوّلاً من جهة الضفة، وضغوط ومحاولات استثمار إيرانية، سواء بتهريب المخدّرات أو الأسلحة أو بتفعيل تحرّكات جماعة الإخوان المسلمين المتعاطفة مع غزة أو بمطالبة فصائل الحشد الشعبي للأردن بفتح الحدود لها.
تفوّق إسرائيل العسكري في لبنان
أمّا لبنانياً، فلا بدّ من الفصل بين السياسة والمعارك العسكرية بالنسبة الى الحزب. إذ إنّ إسرائيل تُظهر تفوّقاً عسكرياً وتكنولوجيّاً ضدّ الحزب، وهذا التفوّق هو الذي يقودها إلى تنفيذ عمليات أمنيّة دقيقة ضدّ كوادر وشخصيات لبنانية أو فلسطينية، بالإضافة إلى استهداف خلايا عمليّاتية، أو مواقع ومنصّات إطلاق صواريخ ومخازن أسلحة. وهذا التفوّق يناقض كلّ الدعايات التي عمل على نشرها البعض بأنّ هناك عملاء، وقد اتّهموا اللاجئين السوريين بذلك. أمّا سياسياً، فإنّ الحزب لا يزال يكسب على الرغم من تكبّده خسائر عسكرية كبرى، فهو يعلم أنّ كلّ المفاوضات الدولية ستصبّ لديه في النهاية، والاتفاق سيكون معه.
عسكرياً، من الواضح أنّ إسرائيل تصرّ على الاستمرار في توجيه العمليات والضربات القاسية للحزب في أيّ منطقة ولم تعد تلتزم بأيّ من قواعد الاشتباك. تستفيد إسرائيل من الظرف القائم حالياً، لتوجيه ضربات نوعية ضدّ مواقع أو قادة ميدانيين. فهي تريد تفكيك البنية العسكرية الميدانية للحزب في جنوب نهر الليطاني، ولذلك تصرّ على الاغتيالات وعلى التدمير الموسّع والممنهج لعدد كبير من القرى، بالإضافة إلى استخدام القذائف الفوسفورية الحارقة بهدف جعل كلّ المناطق مكشوفة.
ما أرادته حماس هو إعلاء القضية الفلسطينية وإعادة طرحها على الطاولة الدولية والإقليمية وإعادة الاعتبار لحقوق الفلسطينيين وأخذ حقوقهم في أن تكون لهم دولة مستقلّة
تقسّم إسرائيل الجنوب إلى ثلاث مناطق عمليات، الأولى من صفر إلى 10 كيلومترات، والثانية من 10 إلى 20 كيلومتراً والثالثة من 20 إلى 40 كيلومتراً. في المنطقة الأولى أصاب دمار شبه كامل أبراج المراقبة العسكرية ومواقع “أخضر بلا حدود” ومنازل يستخدمها الحزب، بالإضافة إلى إحراق واسع للمناطق الحرجية وتدمير مخازن ومنصّات إطلاق. أمّا في المنطقة الثانية فقد وسّعت إسرائيل عمليّاتها فيها على طريق التدمير أيضاً لكن ليس التدمير الكلّي، فهي تستهدف مناطق الإمداد كوادي السلوقي أو كفرا أو غيرهما. أمّا المنطقة الثالثة فتنفّذ فيها إسرائيل عمليات موضعية ودقيقة تستهدف مخازن أسلحة وصواريخ، وهي تُعتبر الخطّ الدفاعي الثالث للحزب وخزّان الإمداد العسكري، كجبل صافي وجبل الريحان والمحمودية ومحيط الخردلي.
لا يؤثّر كلّ ذلك في قدرة الحزب العسكرية على الانطلاق لشنّ المزيد من الهجمات، خصوصاً أنّ المعلومات لدى الحزب تشير إلى أنّه لم يستخدم سوى نسبة قليلة من نوعيات أسلحته وأقلّ من نصف قواته المقاتلة. في المقابل، تصرّ إسرائيل على المزيد من العمليات الاستفزازية التي تهدف لاستدراج الحزب إلى توسيع المواجهات، وهي تضعه بين خانتين: ففي حال وسّع التصعيد سيكون مبرّراً لها توسيع ردودها وعملياتها، وأمّا بحال لم يلجأ إلى التصعيد لتغيير موازين القوى فستستمرّ بعملياتها الحالية لتحقيق أكبر قدر ممّا تسعى إلى تحقيقه ضمن مسافة 12 كلم من خلال التدمير وعدم السماح للحزب بالعودة إلى بناء مراكز ومواقع عسكرية وتعزيز وضعية تسلّحه فيها، خصوصاً لناحية الأسلحة النوعية كالصواريخ الدقيقة والبعيدة المدى والطائرات المسيّرة، بالإضافة إلى الاستمرار في عمليات اغتيال الكوادر.
هل تنقذ غزّة الحزب؟
يحصل ذلك في وقت لا يزال الحزب يراهن على وقف إطلاق النار في غزة، وتجنّب التصعيد بناء على المفاوضات الإيرانية الأميركية التي كشف عنها وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان خلال زيارته بيروت، لا سيما أنّه أبلغ الأمين العامّ للحزب بأنّ التفاوض مع الأميركيين مستمرّ حول لبنان، اليمن، العراق، وسوريا، وأنّ همّ إيران هو تثبيت رؤيتها في المنطقة وفتح مسار الانسحاب الأميركي من العراق وسوريا، وهو ما سيشكّل اعترافاً أميركياً بالنفوذ الإيراني، وسينسحب على لبنان سياسياً، خصوصاً أنّ كلّ الدول تعرض الاتفاقات والمفاوضات على الحزب وحده، وهو سيكون قد افتدى لبنان بشهدائه وجنّب البلاد حرباً إسرائيلية واسعة تدمّر كلّ مرافقه وبناه التحتية، بينما اكتفت إسرائيل بتدمير البنية التحتية في الجنوب. وهذا لا بدّ أن يكون له مقابل سياسيّ.
بذلك تسعى أميركا إلى تفكيك الجبهات المساندة لغزّة، انطلاقاً من المفاوضات مع الإيرانيين، الذين يسعون إلى تكريس نفوذهم على مستوى المنطقة ككلّ، فتكون النتائج السياسية في مصلحة طهران ومشروعها مقابل الاجتياح الإسرائيلي لغزّة وتدميرها وانعدام أيّ رؤية جدّية أو حقيقية حول مستقبلها.