«إني استودِع لبنان»، لعلها الجملة الموحَّدة التي استخدمها كلٌّ من الرئيس الشهيد رفيق الحريري، والرئيس «الشهيد الحي» سعد الحريري، في لحظة خروجهما من السلطة، والخروج من السلطة. بالنسبة إلى الأب والإبن، هو «استشهادٌ» في حدٍّ ذاته، فهما لم يعتادا على «العيش السياسي» خارج السلطة، تماماً كالسمكة خارج المياه، ففي كل مرة كان الرئيس الشهيد يخرج من السلطة، كان يخطط للعودة إليها، وحين اغتيل كان في صلب مناقشة قانون الإنتخابات النيابية الذي كان سيعيده مجدداً «على حصان أبيض»، تماماً كما كان الأمر عليه في انتخابات العام 2000 التي «اجتاح» فيها مقاعد بيروت التسعة عشر، إنطلاقاً من «التعليمة» القائلة: «زي ما هيي».
كل هذه الشعبية الهائلة للرئيس الشهيد، وسلطته السياسية وقدرته الديبلوماسية، لم تَحُل دون جلوسه في قريطم، في العام 2004، بعدما «هبَّت رياح» الرئيس عمر كرامي، فقال كلمته الشهيرة: «استودِع لبنان»، وعند الإغتيال تبيَّن أنّ المخططين لم يكونوا يريدون اغتياله وهو رئيس للحكومة، بل كرئيس سابق.
بشكلٍ من الأَشكال، أعاد التاريخ نفسه، أُبعِد الحريري الإبن، وقال كلمته الشهيرة: «أستودع لبنان»، قبل أن يتعرَّض «للإغتيال السياسي». هنا بدأ «اللعب على المكشوف»: حريريون أبعدهم الحريري قبل أنْ يُبعَد. حريريون إنكفأوا، بمعنى أنهم أبعدوا أنفسهم. حريريون حاولوا «وراثة الإرث»، فأعطوا انطباعاً بأنهم تسرَّعوا، والأوفياء لبيت الوسط كانوا لهم بالمرصاد.
بعيداً من دائرة الحريري و»تيار المستقبل»، كيف تفاعل أو تعاطى الشارع السني ولا سيما البيروتي منه، مع إبعاد الحريري؟
الأرض كانت أكثر وفاءً من الصالونات، عبَّرت عن ذلك في أكثر من مناسبة، بينما كانت الصالونات تقدِّم المصلحة والمنفعة على الولاء والوفاء، منهم مَن ابتعد وآثر «البزنس»، وبعض هؤلاء كان من اللصيقين بالشيخ سعد، ومنهم مَن كان يُصر على أنه «حريريٌّ» أباً عن إبن، لكن الشيخ سعد يعرفهم واحداً واحداً، يعرف مَن صمد ومَن تلوَّن ومَن نقل البندقية من كتف إلى كتف، والقلم من يدٍ إلى يد.
وهناك الطبقة النيابية والطبقة الوزارية، ليس سهلاً ملء فراغ الرئيس الشهيد والرئيس سعد، في آن، وهذا ما عاناه بعض نواب مجلس 2022، على رغم أنّ بعضهم يتمتع بحيثية تمثيلية، لكن الجلوس على مقعد «الأب والإبن»، لم يكن بالأمر اليسير، فكان الأمر صعباً حتى على الشيخ بهاء الحريري أن ينخرط في اللعبة السياسية، على رغم الجهود والتحضيرات التي بذلها وقام بها، وصولاً إلى تكليف رجال قانون وفكر لوضع نظام لحزب. لكن الأرض لم تكن تتجاوب، حتى مع الحريريين الأوفياء، فكيف بالإنتهازيين ومقتنصي الفرص؟
سيعود الرئيس سعد الحريري لإحياء الذكرى التاسعة عشرة لاستشهاد والده، لكن إلى متى سيعود؟ هل تطول إقامته؟ وإذا لم تكن هناك سياسة في عودته، فإلى أين يعود؟ هل إلى رأس «تيار المستقبل»؟ وبأي هدف؟ حتى الساعة، لا أحد يملك أجوبة، وقد يكون الرئيس الحريري نفسه لا يملك أجوبة.