“المهمّة الإسرائيلية في غزة ستُنجز. بمعزل عن الكلفة والمدّة.
والعرض القديم – الجديد الذي يحمله لنا هوكستين، محدود الصلاحية الزمنية بحدود الحرب.
وفتح جبهة الجنوب حتمي، إذا لم نفهم أبعاد المعطيَين السابقين…
والأهمّ، لا تبنوا حساباتكم ومعطياتكم على بروباغاندا أوهامكم وإعلام البوستات والفيك نيوز. فيما حقائق العالم الواقع في مكان آخر”.
هذه خلاصة ما يقوله دبلوماسيون غربيون لسياسيين لبنانيين، عن “حرب غزة المنجزة”، وعن “حرب لبنان الحتمية”.
***************************
يُنقل عن الغربيين تأكيدهم بداية أنّ إسرائيل ستُنجز مهمّتها في غزة.
إنسوا كلّ ما ترون أو تسمعون أو تتمنّون. بعد 7 أكتوبر هناك غزة الجديدة. وسترون مشهداً مماثلاً لمشهد بيروت 1982. ولو بصيغ وأشكال مختلفة: خروج لقيادات حماس من القطاع، وبداية مختلفة.
ما أدركه توماس فريدمان، في فارق الوقت بين كتاباته من نيويورك، ثمّ كتاباته من إسرائيل، هو حقيقة الأمر التي عليكم إدراكها. فالكاتب البارز في صحيفة “نيويورك تايمز”، بدا من بلاده بانتقاد سلوك إسرائيل بعد 7 أكتوبر. ولما وصل إليها والتقى مسؤوليها وناسها وكادرات مؤسساتها، كتب أنه اكتشف إسرائيل أخرى لم يعرفها من قبل. وأدرك أنها ذاهبة إلى ما بعد نهايات كل تصعيد، وإلا فمصيرها الزوال.
فعلى أرض الكيان ثمّة معركتا حياة أو موت تدوران الآن. معركة حياة إسرائيل أو موتها. ومعركة حياة نتانياهو أو موته السياسي والفعليّ. وقد تماهت المعركتان معاً ولن تتوقّفا.
هناك من اتّخذ قراراً لا عودة عنه، بأنّ ما بعد 7 أكتوبر هو امتحانٌ للتاريخ. للتأكّد ممّا إذا كان وجود إسرائيل في ذاته “حادثاً تاريخياً” عابراً زائلاً، أم أنّ هجوم ذلك الفجر التشرينيّ هو الحادث الذي، وهنا الكلمة المفتاح لكلّ ما يحصل وسيحصل، لن يتكرّر أبداً.
في سياق هذا القرار النهائي، سقطت في الكيان تابوهات وعِقد أعداد الضحايا والقتلى والخسائر وحتى الأسرى والرهائن وغيرها من قيود الماضي من تاريخ ما قبل 7 أكتوبر.
بحسب جردة أصحاب القرار في إسرائيل، يعتبرون بعد 3 أشهر على بدء حربهم، أنّهم على الطريق الصحيح لإنهائها وإنجاز مهمّتها
سجّلوا لديكم
بحسب جردة أصحاب القرار في إسرائيل، يعتبرون بعد 3 أشهر على بدء حربهم، أنّهم على الطريق الصحيح لإنهائها وإنجاز مهمّتها.
كيف؟ ينقل عنهم الغربيون: سجّلوا لديكم:
عسكرياً وميدانياً: يعتبر قادة حرب الكيان أنّهم بلغوا قلب غزة. وبأرقامهم، يوم 7 أكتوبر أُطلق على الكيان نحو 3,500 قذيفة. (حماس تقول 5 آلاف). خلال الأيام الباقية من الشهر نفسه، بلغ العدد نحو 9 آلاف قذيفة. في تشرين الثاني صار العدد بضع مئات. الأمر نفسه في كانون الأول.
بالنسبة إليهم قدرة حماس على الأذى تكاد تنتهي.
سياسياً: وعلى المستوى الداخلي، عاد الكيان برأي الغربيين إلى ما كانه حتى السبعينيات: هناك جيش لديه دولة. لا العكس. وهو من يقرّر ويدير كلّ شيء. الصراع الأخير داخل الحكومة دليل بارز. إعلام الممانعة ضجّ بالخبر. لكنّه لم يذكر أنّ الخلاف انفجر بين الوزراء، على خلفيّة التحقيق المزمع إجراؤه حول أسباب وقوع هجوم 7 أكتوبر ومسؤوليّاته، أي أنّهم باتوا ذهنياً في مرحلة ما بعد الحرب!
إعلامياً وشعبياً: خمدت كلّياً حركة التظاهرات الداخلية لأهالي الأسرى والمعارضين لنتانياهو. طبعاً لم يختفِ هؤلاء. لكنّ حركتهم اختفت. وهذا ما يهمّ في السياسة وآليّات اتّخاذ القرار. فورة تظاهرات الأيام الأولى انطفأت. الآن صار أهالي الأسرى يذهبون إلى قطر لمطالبتها بالتدخّل لدى حماس. وهذا تبدّل معبّر جداً.
خارجياً، الأمور نفسها سُجّلت على المستويات ذاتها، ودائماً بحسب نقل الغربيين لقناعات قيادات الكيان:
تراجعٌ كبير في تظاهرات الخارج، بعد ظاهرة ضخمة من التأييد للفلسطينيين في الأسابيع الأولى. الآن باتت حركة رومانسية محصورة في تجمّعات المسلمين المهاجرين في بعض مدن أوروبا. وهي برأي القيادة الصهيونية مفيدة لها. لأنّها تستفزّ الغرب الحاضن. وتستثير اليمين المتشدّد غرباً. وتنعكس بالتالي إيجاباً على إسرائيل وفق حساباتهم.
يعطون ههنا مثلاً واحداً: مشروع الدعوة إلى تظاهرة كونية ليلة رأس السنة ومحاصرة السفارات الأميركية عبر العالم، كان فشلاً ذريعاً.
في الإعلام والرأي العامّ الغربيَّين أيضاً، يستدلّ هؤلاء بواقعة ما حصل مع رئيسة جامعة هارفرد، وقبلها رئيسة جامعة بنسلفانيا. بمنطقهم هذا مقياس معبّر جداً. الاضطرار إلى الاستقالة على الرغم من كلّ شيء. هذه هي الحقيقة والنتيجة. الضجّة التي حصلت قبل هي مجرّد سراب.
أصلاً لا خيار سياسياً لتلك الحركة في أميركا بالذات. تعبئة “عرب واشنطن ومسلميها” ضدّ بايدن؟ هذا يعني دعم بايدن عملياً لا غير. وهذا ما يتمنّاه نتانياهو.
اقتصادياً، لم تؤدّ الحرب إلى أيّ أزمة عالمية. دليلان رقميان كافيان أيضاً: بورصات العالم أقفلت العام الماضي صعوداً. وبرميل النفط إلى انخفاض…
بلينكن وسيناريوهات ما بعد الحرب
سياسياً، جولة بلينكن الأخيرة بحثت إعادة الإعمار. أي سيناريوهات ما بعد الحرب. هنا أيضاً ثمّة قناعة بأنّ الحرب أُنجزت. حتى إردوغان تطوّع لدور في “الهيكلية الأمنية الجديدة”. الكلّ في هذه الأجواء. وصولاً إلى ما لا يحبّ كثيرون معرفته أو قوله، أنْ بلى هناك تسهيلات سفر للغزّيّين قد بدأت. وهناك أرقام باتت معروفة ومعلنة…
لكلّ ذلك، ينقل الغربيون أنّ الصهاينة مستمرّون في معركتهم حتى إنجازها تماماً.
لا شيء سيردعهم بعد. لا الرأي العامّ الداخلي. ولا الرأي العامّ الخارجي. ولا ضغط واشنطن، على الرغم من كلّ فضلها على معركتهم. ولا كلفة المهمّة… أمر واحد قادر على ذلك. إنّه الميدان. والخطير أنّه برأيهم بات لمصلحتهم لا ضدّهم.
هنا يعود الغربيون في عرضهم للتفكير والسلوك الصهيونيَّين، إلى تلك العبارة المفتاح: ستنتهي مهمّة غزة. لكنّها لن تنتهي بالنسبة لهم في غزة. لن تنتهي إلا بيقين كامل ثابت مطلق بأنّ حادث 7 أكتوبر لن يتكرّر أبداً في أيّ يوم آخر، وفي أيّ مكان آخر.
هنا يُفتح ملفّ جنوب لبنان. حيث مسألة الحزب والعامل الإيراني بتعقيداته الشرق أوسطية.
ينقل الغربيون عن تفكير المؤسّسة الصهيونية، أنّ طهران كانت أوّل من فهم اللعبة وأدرك أبعادها منذ اللحظة الأولى.
تنصّلت وتبرّأت. ثمّ خافت على المكاسب. ثمّ طمعت بحصّة في التسوية. فارتبكت واحتارت. قبل أن تقرّر لعب أوراق وكلائها.
لكنّها سرعان ما أدركت أنّ لديها عمليّاً ورقتين اثنتين لا غير: الحوثي في البحر الأحمر. والحزب في جنوب لبنان.
ورقتها العراقية محدودة العائد. وورقة الجولان شبه محظورة عليها. بعدما حسم بشار الأسد موقفه بعدم التورّط في الحرب ومنع استخدام أراضيه لأيّ توريط له. حتى إنّ قراره بإقفال مكتب الحوثيين في دمشق وإبعاد شاغليه خلال ساعات، كان رسالة واضحة لكلّ المعنيين.
هكذا أطلقت طهران ورقة قرصنة البحر الأحمر. لكنّها فوجئت سريعاً بمحدودية مفاعيلها. والأهمّ أنّها لم تحسب نتائجها السلبية العكسية. فالمتضرّر الأوّل منها كان الصين. أي المستورد الأوّل من إيران، والمورّد الأوّل لما بقي من عملاتها النادرة.
وهو ما تزامن مع خطوة عقابية من بكين ضدّ طهران، بوقف التجارة معها. ثمّ بموقف صيني حاسم ضدّ الحوثي، في مناقشات مجلس الأمن.
هكذا، لم يعد برأي الغربيين، في حوزة الإيراني إلا لبنان. ولهذا عاد الكلام إلى لبنان وعنه.
ولهذا بالذات، يعود هوكستين. فنتانياهو يريد الحرب مع لبنان حتماً. وهو يثير تمهيداً لذلك، مواضيع الحدود وتنفيذ القرار 1701 وخطّ الليطاني. لكنّ تقدير الجهات الغربية أنّه لن يكتفي بذلك. بل سيطلب أكثر. فحين ينتهي من غزة، سيشترط أن لا صواريخ دقيقة بالحدّ الأدنى. وإلّا فإلى الحرب الكاملة.
بايدن في المقابل همّه انتخاباته. كلّ الباقي في الداخل والخارج مجنّد لخدمتها.
لذلك أعيد إحياءُ طرح “موفده الغازيّ” لتسوية لبنانية سلميّة. وهو الطرح الذي حمله هوكستين إلى لبنان نهاية آب الماضي. قبل الحرب بخمسة أسابيع. وكان يومها ضمن الخطة الأميركية الكبرى لحلّ عربي إسرائيلي شامل: تطبيع سعودي، يواكبه حلّ فلسطيني وفصل اشتباك لبناني كامل، ورؤية اقتصادية تنموية لكلّ المنطقة، بدءاً من الممرّ الهندي الأوروبي.
وهي الخطّة التي قيل إنّها فجّرت 7 أكتوبر تحديداً.
الآن تعود هي نفسها، متنافسة متسابقة بشكل ساخن، مع خطة تفجير المنطقة وجعلها برمّتها ضواحي بؤس وشقاء. الحزب تبلّغ. فسارع عبر إعلامه إلى التحوّط بطرح جزئية محدّدة: لا مزارع شبعا في الخطة.
وهو يدرك أنّ هذا التفصيل هو للتضليل. فالمزارع مذكورة ضمن القرار 1701، ولو بشكل غير مباشر. والتفاوض قادر على ضمّها. ومشكلتها الحقيقية مع سوريا، قانوناً دولياً وحساباتٍ “دكنجيّة” أو استراتيجية.
لكنّ مسارعة الحزب إلى إثارة مسألة المزارع مهمّة، كما يقول الغربيون. فهي إشارة إلى أمر من اثنين. إمّا إيهام ناسه بأنّ استلحاق المزارع كان من مكتسبات جبهته. وإمّا التمهيد لرفض المشروع برمّته.
ويضيفون: إذا كان المطلوب هو الاحتمال الأول، فقد يعطى له. لكن لا هدايا رئاسية، لعجز أيّ كان عن تقديمها، خارج تفاهم اللبنانيين، وخارج الصورة المطلوبة لرئيس المرحلة المقبلة.
أمّا إذا هدف الحزب العرقلة، فنتيجتها الحرب.
لا بل يعتقد هؤلاء أنّ هذا العرض لن يكون صالحاً بعد انتهاء مهمة غزة. أيّاً كانت نتائجها هناك. فإذا هُزم نتانياهو، فلن يقبل باستمرار وضع جنوب لبنان على ما هو عليه. وإذا ربح، فسيكون رفضه أعلى. أي أنّ حربه في لبنان ستكون حينها خطوة حتمية، بمعزل عن كلّ سرديات الانتصارات “المحوريّة”، على الطريقة الغوبلزيّة، كما يصفها الغربيون.
ماذا سيفعل الإيراني عندها؟
التقدير الأوّلي للغربيين أنّه في النهاية يبدو خامنئي بين خيارين: إمّا أن يوافق على مشروع بايدن، فينقذه وينقذ نفسه والمنطقة. وإمّا أن يتجرّع السمّ من يد قاتل سليماني نهاية هذه السنة.
ما الذي قد يكذّب كلّ ذلك؟ الميدان وحده. وهو يبدو ثقيلاً جدّاً بنتائجه الدموية الهائلة.