في موازاة التحرك الذي يقوم به وزير الخارجية الأميركي، انتوني بلينكن، في المنطقة، برز موقف للسفير الإيراني في سوريا، عن تلقي إيران عبر دول عربية وخليجية مقترحاً أميركياً للبحث في تسوية حول المنطقة برمتها. والمقصود هنا هو البحث في مصير أمن البحر المتوسط، والبحر الأحمر، بالإضافة إلى الوضع في لبنان، سوريا، العراق.
طبعاً، يبقي الإيرانيون الشعار الفلسطيني مرفوعاً، ولكن يبقى الخوف قائماً من أن تصبح فلسطين منسية على طاولة التفاوض، في ظل الاستشراس الإسرائيلي والدعم الأميركي المستمر للحرب على غزة.
الضعف الأميركي
بالتأكيد، العرض الذي كشفه السفير الإيراني في دمشق من شأنه أن يستفز الإسرائيليين أكثر، وهم الذين يعتبرون أن الإدارة الأميركية ضعيفة. وقد تجلى هذا الضعف في إدارة باراك أوباما الذي رفض توجيه ضربة لإيران، وأبرم تسوية معها. فيما لجأت إيران إلى هذه التسوية بعد حالة ضعف عايشتها في سوريا، وخوفاً من سقوط النظام السوري في ذلك الوقت.
ويعتبر الإسرائيليون أن الضعف يستمر مع ولاية جو بايدن. لذلك يحاولون التشدد أكثر فأكثر، لدفع الأميركيين إلى دعمهم أكثر. من هنا، لم تتخل اسرائيل عن مشروعها في تهجير فلسطينيي قطاع غزة، وهي لا تزال مصرة عليه، وتجد من يلاقيها في ذلك داخل الولايات المتحدة الأميركية، بغض النظر عن كل المواقف التي تصدر.
فداخل الكونغرس الأميركي تم تقديم مشروع يشير إلى العمل على تهجير سكان قطاع غزة إلى أربع دول مجاورة، وهي مصر، تركيا، العراق واليمن لقاء مساعدات مالية وسياسية. في المقابل، وجد بنيامين نتنياهو من يعاونه أميركياً في سبيل التفاوض مع كندا، الكونغو، تشاد ودول أخرى من أجل استيعاب أعداد من الفلسطينيين أيضاً. فيما يدور بحث حول إمكانية إرسال المسؤولين العسكريين الكبار في حركة حماس إلى الجزائر.
الاستثمار الإيراني
المسارعة الإيرانية في الإعلان عن هذا العرض الأميركي، هدفها الردّ على الكثير من الكلام الذي جرى التداول به، بأن حماس ورّطت إيران في عملية طوفان الأقصى، واضطرت إيران وحلفاؤها لمساندتها، وتحريك بعض الجبهات في المنطقة، ما استدعى من الأميركيين العمل على مواجهة هذه التحركات. وبالتالي، وضع طهران في موقف ضعيف. هذا الكلام له ما يناقضه أيضاً، باعتبار أن طهران تريد الاستثمار بكل ما جرى في عملية طوفان الأقصى، من البحر الأحمر ومضيق باب المندب إلى البحر الأبيض المتوسط، للقول إنه لا يمكن لأي طرف أن يعمل على تسوية للقضية الفلسطينية أو اتفاق سلام، أو بناء مشاريع اقتصادية واستثمارية عابرة للبحار والقارات من دون أن تكون إيران حاضرة وشريكة. ولا يتوقف الاستثمار الإيراني على البحار والمعابر والممرات.. إنما يطال “أضيق” زاروب في لبنان مثلاً، من خلال محاولة طهران إعادة استقطاب الشارع السني أو إعادة التلاقي مع الإسلام السياسي بعد النكسة الكبرى التي تعرضت لها هذه العلاقة إثر الثورة السورية. وفي ذلك يظهر بعض التكامل في لبنان مثلاً بين الجماعة الإسلامية وحزب الله، وصولاً إلى تشييع صالح العاروري في قلب “الطريق الجديدة”، لما لذلك من رمزية تعيد تثبيت العلاقة وخلق رأي عام سنّي مؤيد لإيران ولحزب الله.
خرائط المنطقة
في مقابل ما يعتبره الإسرائيليون ضعفاً أميركياً بسبب عدم القدرة على مواجهة إيران، هل يمكن لهذا الضعف أن ينسحب على الموقف الإسرائيلي نفسه في لبنان مثلاً؟ بمعنى أوضح، واشنطن تضغط على اسرائيل لمنع شن حرب ضد حزب الله، لأنها لا تريد التصعيد في المنطقة، بينما في اسرائيل أصوات كثيرة تدعو إلى ذلك، فهل يبقى الإسرائيليون خاضعين للرغبة الأميركية، أم أنهم سيستغلون ضعف الإدارة الأميركية ويضعونها تحت الأمر الواقع؟
في كل الأحوال، تبقى كل هذه المسارات والنقاشات مجرد تفاصيل أمام هول ما يجري في قطاع غزة، وتبعاته وتداعياته، التي أصبحت مرتبطة بشكل واضح بممرات الطاقة ومعابر التجارة الدولية وإعادة رسم خرائط المنطقة. بالإضافة إلى عمل الغرب في سبيل تحقيق استقرار اسرائيل وحمياتها من أي تهديدات، إلى حد اعتبار بعض المسؤولين في الإدارة الأميركية أن ما تريده واشنطن هو أن تكون هذه الحرب هي الحرب الأخيرة بين فصائل متعددة وإسرائيل، سواءً في غزة، أو في جنوب لبنان بعد ترسيم الحدود البرية.
مصير غزة.. ولبنان
مشرع التهجير في غزة لا يزال قائماً، والإسرائيليون يريدون تحييد أكبر كتلة بشرية من غزة وتفريغها. والهدف هو إلغاء شمال القطاع. أما في ما تبقى منه، فيتم استقدام قوات متعددة الجنسيات، على غرار مشروع إدخال قوات ردع عربية إلى لبنان، وبعدها بقي الجيش السوري وحيداً ومتحكماً. وربما في غزة سيكون الإسرائيلي وحيداً ومتحكماً، ولكن هذا مشروع بعيد المدى وسيتم العمل عليه على مراحل. هنا أيضاً يمكن العودة إلى مشروع تهجير سوريا وتفريغها، والذي يشكل مبرراً للإسرائيليين لتهجير الفلسطينيين، سواءً في القطاع أو في الضفة. لا تنفصل هذه المشاريع عن إعادة رسم خرائط المعابر والممرات، والبحث في مستقبل غاز غزة وطريق الهند، في إطار مواجهة مبادرة الصين للحزام والطريق.
لبنان لن يكون بعيداً عن ذلك، خصوصاً بعد عملية ترسيم الحدود البحرية، والبحث المستقبلي في أي مسار لتصدير الغاز الذي سيستخرج منه، ومن هي الجهات التي ستعمل على التصدير. هنا، أمن البحر المتوسط ولا سيما أمن حقلي تامار وكاريش، في أولويات الولايات المتحدة الأميركية وأولويات أوروبا، التي تبدو بأمس الحاجة إلى الغاز. من هنا يمكن قراءة الهجمة الديبلوماسية، وآخرها وزيرة خارجية ألمانيا، التي تطرح فكرة الاستقرار وتعزيزه بقوات ألمانية وزيادة عديد قوات الطوارئ الدولية.