في البلد، أو في سوق نخاسته، روايتان حول قضية قيادة الجيش، يتناقلهما كثيرون همساً وغمزاً. ويُحظر كشفهما. لأنّنا بتنا نعيش في ما يشبه نظام “أومرتا”. أو صمت المافيات.
الرواية الأولى تقول إنّه قبل أسابيع جاء من يوحي إلى الحزب بهذه القراءة:
تعالوا نبحث كيف ترون الوضع الداخلي في لبنان في مرحلة ما بعد حرب غزة؟ أيّاً كانت نتائج الميدان، لا شكّ أنّ انعكاساتها لبنانياً ستكون بداية لإعادة تكوينٍ للسلطة. تماماً كما حصل بعد عملية 7 أيار 2008.
وضروريّ جدّاً أن تتذكّروا ذلك النموذج. يومها قمتم باجتياح بيروت وحقّقتم انتصاراً عسكرياً كاملاً على خصم وجماعة كاملين. لتجدوا أنفسكم بعد يومين فقط، مضطرّين إلى تنازل سياسي كبير والقبول بميشال سليمان رئيساً. وهو من كان مرشّح خصمكم الذي هزمتموه للتوّ. حتى إنّ أحد نوّاب المستقبل كان قد أعلن ترشيحه بعد 48 ساعة فقط على نهاية ولاية إميل لحّود.
هكذا أُضيعت يومها 6 أشهر كاملة، وسُفكت دماء غزيرة، لتعودوا فتنتخبوا مرشّح خصمكم. حتى لا نذكّركم بكيف انتهت تلك الولاية.
ما يؤكّد أنّه مهما كان النصر الذي تتوقّعونه من غزة “وما بعد ما بعد غزة”، فستظلّون في لبنان محكومين بآليّة معروفة لإعادة تكوين السلطة. وبالتالي سيكون لكم شركاء حكميون فيها. ولن تكونوا وحدكم. وعندها لن تكونوا قادرين على احتكار مفاصل الدولة التي ستقوم غداة انتصاركم المجيد.
أكثر من ذلك، فلنفكّر معاً، كيف سيكون وضع “وكيلكم” الماروني، أي جبران باسيل نفسه، في تلك التركيبة؟ سيكون حتماً أوهنَ منه راهناً بأضعاف على الأقلّ. فهو الآن يحتكر حصّة مسيحية بناء على نتائج انتخابات 2018، كأكبر كتلة مسيحية يومها. ثمّ صادر فوقها حصّة رئيس الجمهورية، الذي صادره كلّه أصلاً. قبل أن يسطو فوق الحصّتين، على حصّة القوى المسيحية المناوئة لكم، والتي رفضت المشاركة في آخر حكومتين.
في البلد، أو في سوق نخاسته، روايتان حول قضية قيادة الجيش، يتناقلهما كثيرون همساً وغمزاً. ويُحظر كشفهما. لأنّنا بتنا نعيش في ما يشبه نظام “أومرتا”. أو صمت المافيات
حسناً. كيف ستكون حصّته في زمن ما بعد غزة وإعادة تشكيل الدولة اللبنانية؟ ستتدهور إلى أقلّ من ثلثها الراهن. فحصّته الذاتية ستُبنى على نتائج 2022. حيث لم يعد الكتلة الأولى نيابيّاً. حتى لا نتكلّم عن الأرقام الشعبية الفعليّة ونتائج الانتخابات الطلّابية والنقابية الأخيرة، خصوصاً خلال حرب غزة بالذات، والتي تظهره وتظهركم في حالة من الويل… ثمّ سيخسر كتلة الرئيس الجديد، الذي سيستعيد حصّته الحكومية. وطبعاً سيفقد حصّة القوى المسيحية الأخرى، التي ستكون متوثّبة للمشاركة في أوّل حكومة في العهد الجديد.
بالتالي خذوا ورقة وقلماً واحسبوا. ستكون قدرتكم على الإمساك بمفاصل الدولة أقلّ بكثير ممّا هي الآن. ولو احتفظتم بحقّ النقض حيال أيّ تعيين أو تكوين. عندها وفي أحسن الأحوال، ستكون خياراتكم، إمّا القبول بالشراكة الفعلية مع الآخرين، وإمّا الظهور بموقع المعرقل لانطلاق عهد رئاسي جديد أنتم شاركتم في انتخابه.
في المقابل، فكّروا معنا في هذا الطرح الممكن الآن: الرئاسة مؤجّلة أكثر مع تطوّرات الحرب. فتعالوا نُطِح الآن بجوزف عون. ولنذهب إلى تعيين قيادة جيش كاملة كما تريدون ونريد.
بعدها تكرُّ سبحة التعيينات تدريجياً. بعد المجلس العسكري كاملاً، تأخذون المخابرات. ثمّ نتدرّج بحكم كسر “تابو” التعيينات، فنملأ فراغ المصرف المركزي والأمن العامّ. وأيّ فراغ آخر.
طبعاً ستكون حصّتكم في هذه كلّها هي الكبرى. فلا نضحك على بعضنا. كلّنا يدرك حجم مشاركة نجيب في اللعبة الحكومية والسنّيّة، كما حدود نبيه تجاهكم، وانكفاء وليد منذ سنوات إلى قناعة “آخر الهنود الحمر”… وبالتالي هكذا نعطيكم فعليّاً الدولة برمّتها. فلا لزوم بعدئذ حتى للحديث عن الطائف والتعديلات وسلال التسويات.
بعدها إذا جاءكم ابن باسيل ووافق على انتخاب فرنجية، يكون زيت على زيتون. وإذا لم يفعل يكون قد أعطاكم سلفاً مقوّمات الرئاسة بلا رئيس.
أصلاً، وتاريخياً، ومنذ وجود رئاسة الجمهورية، وخصوصاً بعد الطائف، ما هي، أو ماذا بقي من مقوّمات الرئيس والرئاسة في الدولة؟ هي هذه المراكز حصراً. قيادة الجيش ومديرية المخابرات وحاكمية مصرف لبنان والأمن العامّ. الباقي تفاصيل هامشية وأقلّ من ديكور.
هكذا تقبضون أنتم على أدوات الرئاسة كلّها. وبعدها لا حاجة حتى إلى رئيس. حتى إذا فرضت الظروف لاحقاً المجيء بواحد، سيكون منزوع الصلاحيّات والأدوات والدسم بالكامل.
في البلد، أو في سوق نخاسته، كلام عن أنّ هذه القراءة نُقلت إلى الحزب قبل أسابيع. وأنّه بناء عليها سرت موجة يومها تقول إنّ التعيين في قيادة الجيش حُسم. حتى إنّ عملاء كاريش من المساهمين في الرواية والمؤامرة بدأوا الاحتفالات يومها.
قبل أن تنحسر الموجة فجأة. قيل أنّ الحزب لم يقتنع. وأنّه آثر الالتزام بما بقي من أصول ميثاقية للبلد.
وقيل أنّ سليمان فرنجية أبلغ الحزب موقفاً رافضاً لما يسوَّق. وهو موقف يندرج ضمن تاريخ عائلي عريق من فروسية ميثاقية. تماماً كما فعل جدّه في مؤتمرَي جنيف ولوزان، يوم دافع عن رئاسة الجمهورية، بوجه حلفاء “خطّه”.
وقيل أنّ بكركي استنفرت بشكل استثنائي وكما لم تفعل من قبل.
وقيل أنّ الجيش، كلّ الجيش بكلّ رتبه، أفهم الجميع في الداخل والخارج أنّه مؤسّسة للوطن لا لأشخاص. وأنّه يخضع للقانون لا للنزوات. وأنّ له قائداً واحداً معروف الاسم، وأنّ إمرته له وحده.
فقيل أنّ المحاولة فشلت.
ويُحكى في البلد وسوق نخاسته أنّ ما جرى هو أمر آخر مختلف وأكثر سرّية وحساسيّة.
أمر خطير بدأ مع زيارة هوكستين الأخيرة. يوم جاء يوحي بكلام عن تسوية شاملة وكبيرة بين لبنان وإسرائيل، ولم يلتقِ مسؤولاً مسيحياً واحداً.
وأنّه يومها حبكت الحميّة مع جبران باسيل، رافع صلبان الجمهورية الثالثة فوق قمم بلاد جبّة البترون وجوارها، بأنّه إذا استمرّت الأمور على هذه الحال، ثمّة خطر وجودي أكيد، في أن تُبرم واشنطن صفقتها مع طهران إقليمياً. فتنعكس هنا صفقة بلا حدود مع الحزب. حول الحدود ومن الحدود إلى ما داخل الحدود. فلا يعود للمسيحي ولا لموقعه الأوّل أيّ دور أو علّة وجود.
وأنّ هناك من خشي حول باسيل، من تصرّف الحزب حيال الداخل والخارج، بشكل يوحي للجميع، بأنّ مسألة قيادة اليرزة باتت في حارة حريك. وأنّ الحزب وحده من يقرّر مصيرها. وبالتالي تولّدت نقزة حول باسيل من أن يكون الحزب يوحي عفواً بالقول: الجيش فعليّاً تحت قيادتي. والأمر لي في من يكون على رأسه الآن. ولاحقاً في كلّ ما سيُطلب منه في مرحلة ما بعد غزة، ومشاريع الحدود البرّية وما بعدها.
وهذا ما جعل باسيل، بشكل حذق وذكيّ حتى النباهة، يرفع الصوت ضدّ قيادة الجيش، ليُسمعَ قيادة الحزب. وليقول للأميركي إنّه لا يزال يملك حصّة أو سهماً تفضيليّاً في هذا الموقع بالذات. وبالتالي إحكوا معي، وإلّا فأنا قادر على العرقلة والخربطة.
بين يومَي الخميس والجمعة وما بعدهما، قد يظهر أيّ من القراءات أصحّ. لكنّ الصحيح الثابت أنْ هنيئاً للحزب بمن معه كما بمن ضدّه.
أمّا خبريّة الأمانة والخيانة، فمتروكة لكلام آخر، بعد اجتياز القطوع.