يتعامل العالم مع جرائم هائلة تسحق أهل قطاع غزة وتبيدهم، بالكثير من البرود والتجاهل لحجم المأساة التي تطول الإنسان الفلسطيني أطفالاً ونساءً وعجزة وجرحى، وحتى الشهداء لا يحظون باحترام موتهم ولا بفُرَصِ دفنهم بما يليق بكرامة… بينما تدور ألعاب المصالح على طاولات التفاوض على حساب حقوق البشر في هذه المنطقة التي لا تكاد تخمد فيها حربٌ حتى تندلع أخرى، وفي قلب كلّ هذا المشهد يحظى القائمون بالحروب بالفرص والتسهيلات، وهذا ما يحصل عليه الإسرائيليون والإيرانيون على طرفي المشهد الذي لم يعد متناقضاً بعد عملية «طوفان الأقصى».
تنعكس الارتكسات في السياسة الدولية على غزة وعموم القضية الفلسطينية وعلى سوريا والعراق واليمن ولبنان ويُترجم ذلك من خلال حفلة «التغنيج» التي تحظى بها «إسرائيل» لتحقيق هدفها في القضاء على حركة «حماس» وإفناء أهالي غزة تحت هذا الشعار، كذلك تحظى إيران بالكثير من التسهيلات و»الدلال» الأميركي والغربي لتستمرّ في سياساتها باستهداف العالم العربي، بينما يجري التفاوض على حدود نفوذها وكيفية إدارة هذا النفوذ على حساب الدول الوطنية.
شاهدَتْ عواصمُ «القرار الدولي» كيف قام العدوّ الإسرائيلي و»حزبُ الله» كلٌ من جانبه وعلى طريقته بتفريغ القرار 1701 من مضمونه وأهدافه، وبتقويض سلطة الدولة اللبنانية، فتغاضت الدول الراعية للقرار عن الخروقات الإسرائيلية (الطلعات الجوية والتحرّكات البحرية) من دون أن تسعى إلى ردعها، كما واكبت بصمتٍ مشبوه عودة «حزب الله» بمقاتليه وسلاحه تدريجياً إلى الحدود الجنوبية على حساب حضور الدولة والجيش اللبناني في المعادلة المحلية والخارجية.
لم تمنع الخروقات الإسرائيلية «حزبَ الله» وسلطته الرئاسية والنيابية والحكومية من عقد اتفاقية ترسيم الحدود البحرية التي لا تقلّ عن اتفاقية «تطبيع بالباطن» على الطريقة الإيرانية التي تريد تأمين المصالح الاستراتيجية لإيران ومحورها وتحقيق المكتسبات الداخلية كثمن لطاعة التوجّهات الأميركية.
تسرّبت من القنوات الأميركية والدولية معادلةٌ هجينة طرحت تقديم رئاسة الجمهورية إلى «الحزب» مقابل تطبيقه «الطوعي» للقرار الدولي بالتزامن مع عودة الموفد الفرنسي جان إيف لودريان إلى لبنان وقيامه بجولة ضبابية مضطربة أظهرت أنّ فرنسا ماضيةٌ في ضلالها القديم في إعطاء الأولوية لمصالحها على حساب المصلحة اللبنانية، وأكّدت أنّ حضوره كان بهدف صيانة المصالح الفرنسية، وخاصة في مجال النفط والغاز، في لحظة احتدام الصراع وانفتاح محافل التفاوض حول ملفات المنطقة.
إنطلق طرحُ مبادلة الرئاسة بقيام «حزب الله» بتطبيق القرار 1701 بشكلٍ طوعي من فكرة سطحية لا تأخذ في الاعتبار تجربة «الحزب» منذ العام 2006 وكيف استطاع تفريغَ هذا القرار من مضمونه والعودة تدريجياً إلى الحدود مع إسرائيل، وكيف قضى على فعالية «اليونيفيل» وكيف تحوّل عناصرها إلى أهدافٍ مع تحييد الجيش اللبناني… وكأنّ المطلوب منح «الحزب» الفرصة المناسبة لتجديد شرعية الأمر الواقع الذي يفرضه في الجنوب.
تعكس هشاشة التعامل الدولي مع لبنان التعاطي المصلحيّ بين واشنطن وطهران، فلا ضمانات للتطبيق الطوعي للقرار 1701 من قبل «حزب الله» وبالتالي فإنّ الرئاسة ثمن مجّاني، وكذلك لا توجد ضماناتُ التزامٍ من الجانب الإسرائيلي، وفي كلّ الأحوال رفض عضو المجلس المركزي في الحزب الشيخ نبيل قاووق هذا الطرح خلال احتفال تأبيني بتاريخ 2 كانون الأول 2023 لكنّه خلط بين تطبيق القرار 1701 وبين إقامة منطقة عازلة تطرحها المعارضة الإسرائيلية معتبراً أنّ «حزب الله» لن يسمح بأي مكسب إسرائيلي وبأي معادلة إسرائيلية جديدة على حساب السيادة اللبنانية، لأن حق اللبنانيين هو في التواجد والتحرّك على أي شبر من أرضنا في الجنوب، وهذا يتّصل بكل السيادة والكرامة الوطنية اللبنانية» أي أنّ «الحزب» بات يعتبر الدعوة لتطبيق القرار شكلاً من أشكال الخيانة.
ما زال لبنان واقعاً تحت منخفض السياسات الدولية وقرارات مجلس الأمن ليست كافية لتحريره وإعادة دولته إلى دورها في ظلّ فقدان توازن القوى الداخلي وسقوط البلد عن لائحة الأولويات العربية ووقوعه على خطوط تلاقي المصالح الإيرانية الأميركية، وهذا ما يجعل أزمته ممتدّة إلى حين انتصار مشروع الدولة في المحيط وهو اليوم يقف على مفترق حاسم يبدأ من إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة كإشارة انطلاق لعودة الحياة إلى شرايين الدول المحاصرة بالمصالح الإيرانية- الأميركية.