جرى هذا النقاش ضمن حلقة تفكير سياسي مناوئة للحزب ومرجعيّاته، في السياسة والأيديولوجيا والمنطلقات والأهداف. بدأ قبل 7 أكتوبر. وترسّخ أكثر بعد حرب غزة. وبعد وصول الأمر حدّ البحث في مصير لبنان، مع مصير دولة فلسطين أو لا – دولتها.
***************************
بلى هُزمنا. يبدأ مناوئو الحزب بهذا الاعتراف الفجّ.
لم ينتصر الحزب. بل هو نموذجنا للبنان، المناقض لنموذج الحزب، هو من انهزم. وقد انهزم على ثلاثة مستويات وفي ثلاث حلقات مؤسّسة له.
هُزمنا وهُزم نموذجنا أوّلاً على مستوى العالم. مع هزيمة النموذج الديمقراطي الليبرالي. تصرّفُ الغرب خلال ثلاثة عقود من سقوط النموذج السوفيتي، أوصلنا إلى لحظة حيث لم تعد الديمقراطية قيمةً جاذبة ولا جذّابة، ولا نموذجاً قابلاً للتعميم والعولمة، بل ذهب العالم في بعض نواحيه إلى عصر الردّة على الديمقراطية، وصولاً إلى القول بزمن ما بعدها وحتى ما بعد الحقيقة.
توحُّشُ العولمة وتحوّلُها خطراً على الهويّات الذاتية، واستكبار واشنطن، فيما هي تتجوّفُ من داخلها كنظام نموذج، فضلاً طبعاً عن الاحتقان المستمرّ للإسلام السياسي عالمياً، والمسار التصاعدي الطبيعي لقوّة الصين، فيما روسيا تعود إلى طبعِها حيث لا حياة لها إلا بقيصرٍ يجيد لعبة الدم والسمّ… كلّ ذلك جعل النموذج الديمقراطي يتآكل ويتهاوى ويَبطُل قطباً يجذب العالم.
لا بل بدأ كلام عن ضرورة التخلّي عن الديمقراطية، واللجوء إلى أنظمة أخرى تُزاوج بين القوّة والتوجيه لمصلحة خبز الإنسان على حساب حرّيته.
لم ينتصر الحزب. بل هو نموذجنا للبنان، المناقض لنموذج الحزب، هو من انهزم. وقد انهزم على ثلاثة مستويات وفي ثلاث حلقات مؤسّسة له
المهمّ أنّ نموذج الحرّية والتعدّدية الذي يمكن للبنان أن يكونه، ولا حياة له بدونه، هُزم عالمياً.
جاء إعلان الهزيمة من واشنطن. يوم وصل أوباما، أوّل رئيس أسمر، إلى البيت الأبيض. فإذا به يحمل أفكاراً “ما بعد البيضاء”. أوّلها شيء من ضغينة ملتبسة ضدّ العرب. ظهرت واضحة في “عقيدته” التي أسهب بعرضها في مطوّلته الشهيرة مع دوريّة “أتلانتيك”.
بعده ذهبت واشنطن إلى ردّ الفعل عليه. فأنتجت جنون الترامبيّة. فيما كان بوتين يقضم فلول قيصريّته من جورجيا إلى القرم، ومن كازاخستان إلى ما بعد أوكرانيا.
باختصار، صار العالم شيئاً من حرب عبثية، بين شعبوية ما كان يوماً يميناً وليبرالية، وبين فوضوية ما كان يوماً يساراً واشتراكية. فأيّ مكان لنا وللبناننا فيه؟!
الهزيمة الإقليمية
لم تتوقّف الأمور ههنا. بل هُزمنا أيضاً على المستوى الإقليمي وفي منطقتنا:
ربيع عربي كامل، من نار البوعزيزي التطهيرية، إلى نصف نهد ناديا بوستة، قمر تونس. ومن ثورة علياء المهدي الأنثوية، إلى ثورة وائل غنيم الميدانية… ربيع أمّة كاملة، انتهى إلى تكريس أنّنا في منطقة تحكمها ثلاثة مكوّنات لا غير: العمامة، والجزمة، والعائلة الحاكمة. كلّ الباقي من أوهام نموذج لبنان، لا مكان له ولا مكانة ولا قيمة ولا من يهتمّ.
وهنا هُزمنا بشكل مباشر حين هُزمت ثورة سوريا. وحين انتصر نظامها. خصوصاً بدعمِ ووصاية كلّ من موسكو وإيران. لنفهم أنّ حلمنا بوطنٍ ينتخبُ حكّامه ويذهب السابقون منهم إلى التقاعد آمنين، ليس إلّا مجرّد وهم.
حتى بلغت هزيمتنا حلقة الداخل اللبناني. هنا أيضاً لم ينتصر الحزب بنموذجه. نحن هُزمنا بأحزابنا ونماذجنا. كأنّنا استدخلنا هزيمتنا العالمية والإقليمية، فراح كلّ منّا يفتّش عن خلاصه الفردي وحده. حتى ضربنا أسس التوازن اللبناني، الذي من دونه لا لبنان إطلاقاً.
سقط المكوّنُ السنّيّ اللبناني الميثاقي. وسقط على مراحل. منذ 14 شباط 2005 إلى 7 أيار 2008، وصولاً إلى انقلاب قمصان حكومة حزيران 2011، وانتهاء باعتزال سعد الحريري… بمعزل عن الأسباب والتفاصيل، سقط مكوّنٌ مؤسّسٌ لنموذجنا اللبناني الحرّ التعدّدي.
كما سقط تزامناً أيضاً المكوّنُ المسيحي. انتهى بين أقلّية مع جبران باسيل، المتحوّل “رابطاً” لدى وفيق صفا، وبين أكثرية مع سمير جعجع، المرابط على تلّة بعيدة عن بيروت، بأكثريّته المعطّلة والمشلولة، التي لا تحكي مع أحد ولا يحكي أحدٌ معها.
خرج المسيحيون من لبنانهم ولبناننا. خرجوا من السياسة والثقافة والجغرافيا.
ليست مصادفة أنّه حين أسّس المسيحيون والموارنة لبنان، كان زعماؤهم يأتون من أطراف البلاد ليقيموا في بيروت العاصمة. هكذا فعل بشارة الخوري وكميل شمعون وحميد وسليمان فرنجية وبيار الجميل… اليوم أقرب مسؤول مسيحي إلى بيروت يقيم على مسافة خوف من بيروت وجهل بالعاصمة الجامعة للنموذج الذي أسّسوه قبل قرن.
وهو ما جعلهم يخرجون نهائياً في الأعوام الأربعة الأخيرة، من الاقتصاد والمصرف والجامعة والمدرسة والمستشفى.
حتى باتت صورتهم مفسوخة، بين ذمّيّيهم المزايدين خلف الحزب طمعاً بفتات سلطة، وبين “قوميّيهم” المزايدين بالعداء المطلق للحزب، رهاناً على وهم مجهول.
وسقط المكوّنُ الدرزي كذلك، بين إدراك وليد جنبلاط لموازين القوى الجديدة، وبين معاينته بأسى وأسف عظيمين لسلوك الرفاق.
لتنتهي سلسلة الانهيارات بسقوط 17 تشرين الرائعة بين بضعة أفراد وصوليين، وبعض حالمين رومانسيّين، وكثرة غاضبة عاجزة نقيّة تترقّب فرصة أخرى مقبلة.
هكذا هُزمنا كلّنا، يخلصُ تفكير الحلقة المناوئة للحزب. وهكذا لم ينتصر الأخير. بل قطف سقوطنا. حتى تغوّل، خصوصاً مع حرب غزّة، وبعدها، في ظلّ الكلام والتسريب والمعلومات، عن تفاوض أميركي إيراني، وحتى عن عروض سعودية للملالي.
قُضيَ الأمر إذن؟
طبعاً لا، يجزم هؤلاء.
يتابعون منطقهم بالقول: اليوم يطلع علينا البعض بطرح التعايش مع سلاح الحزب وفق صيغةٍ ما، وانتظار الغد لبنانياً وإقليمياً ودولياً.
هذه صيغة جرّبناها مرّتين من قبل. مع السلاح الفلسطيني عبر اتفاق القاهرة. فانتهت إلى سقوط لبنان ومنظّمة التحرير معاً، حتى كادا يحتضران.
ثمّ جرّبناها مع سلاح الأسد، عبر وصاية الأخوّة والتعاون والتنسيق. وانتهت أيضاً إلى انفجار بيروت ثمّ دمشق.
ممنوع تكرار التجرية
اليوم ممنوعٌ تكرار التجربة مرّة ثالثة مع سلاح الحزب.
أمّا الخيار البديل فسهلٌ بسيط ممكن ومتوافر. يكفي موقفٌ واحد. عنوانه أن نسلّم جميعاً بفوز الحزب بهذه المعركة. وأن نتركه يحكم. لكن أن يحكم وحده.
بلا واجهات ولا أقنعة ولا وجوه ذمّية أو أسماء انتهازية. فليحكم الحزب لبنان كلّه وحده.
فليأتِ باسم رئيساً للجمهورية. وهذا ما يبدو فاعلَه. فهو لن يقبل بسليمان فرنجية، لأنّ الأخير زعيم ابن زعيم، وسيكون رئيساً حفيدَ رئيسٍ قاتَل الفلسطينيين والسوريين. الواضح أنّهم سيتذرّعون بفيتو باسيل على فرنجية لاستبعاده. وهذا المطلوب. ولينصّبوا موظّفاً صغيراً لا يغطّي حكمهم.
في زمن الجمهورية الأولى قيلَ أنّ الموارنة لديهم حاكمٌ مطلق غير مسؤول. الآن يريد الحزب تسلّطاً شمولياً غير منظور. وهذا ما لا يجب أن نغطّيه. فليأتِ برئيس للجمهورية موظّف لديه. وليُسمِّ من “سراياه” موظّفاً لسرايا الحكومة. لا واجهة أنيقة موثوقة خارجياً مثل ميقاتي، يستقلُّ طائرته ويجول على العواصم. فيعطي انطباعاً مضلّلاً عن وجود دولة اسمها لبنان، ثمّ يعود منتظراً تعليمات حسين خليل لحسم استحقاقات البلاد. وليسمّوا معه مجموعة وزراء من هذا النوع بالذات.
باختصار، الحلّ أن يتسلّم الحزب الحكم كلّه وحده. كما فعل إخوان مصر وتونس. وكما صار في ليبيا وحتى في غزة بعد 2006.
إذا نجحوا نصفّق لهم. وإذا فشلوا، لا يتنصّلون من سقوطهم. عندها يدركون ثوابت لبنان وتوازناته وأسس قيام دولته ونظامه. من حرّية ومدنيّةٍ وديمقراطية وتعدّدية، واعتدالٍ عربي حضاري، وانفتاحٍ على عالمٍ يحيا بنغمة موسيقى وشِعرٍ من نبيذ ونسمةٍ في شَعر امرأة.
هل من رأيٍ آخر مغاير؟
طبعاً. والكلام غداً.