يتنقّل لبنان في السجالات بين الملفات، من دون حسم أي منها. وقد أصبحت هذه عادة معهودة لا تفضي إلا إلى الترهل وتأجيل الأزمات وتمديدها، بدلاً من حلّها. لكن الأسوأ من ذلك أن تتسم الطروحات الدولية بالآلية اللبنانية نفسها، لجهة عدم القدرة على البت في حلّ الأزمات وتركها معلقة. وهذا لا يقتصر فقط على لبنان بل على ملفات المنطقة.
بالعودة إلى العراق، فهو يعيش أزمات متوالية بلا أي حلّ لها منذ سنوات طويلة. فأقصى ما يتم التوصل إليه هو تسويات موضعية، غالباً ما تسقط بانتظار البحث عن تسويات جديدة. سوريا على حالتها الحربية منذ أكثر من عشر سنوات بلا أي أفق. فلسطين بلا حلّ عادل وسط صراع متجدد، انفجر مؤخراً في قطاع غزة. وحتى الآن لم ينجح المجتمعين الدولي والعربي في تقديم تصور واضح وواقعي قابل للحياة من شأنه حلّ القضية الفلسطينية. حتى في غزة نفسها حيث الحل العسكري مستحيل، لا يظهر أي تصور دولي لكيفية إنهاء حالة الحرب والانتقال إلى البحث عن حلول سياسية.
تعديل الـ1701؟
لبنان ليس بعيداً عن ذلك، فهو منذ سنوات يعيش على وقع أزمات وانهيارات وصراعات سياسية ذات طابع إقليمي، من دون أن يتمكن طرف داخلي من التغلب على الطرف الآخر، ومن دون القدرة على الوصول إلى تسوية شاملة. وهذا ما لا يزال مستمراً إلى اليوم منذ الانخراط الدولي بمبادرات متعددة، آخرها المبادرة الفرنسية المتعثرة منذ العام 2020، وصولاً إلى زيارة المبعوث الفرنسي جان إيف لودريان الأخيرة، والتي لم تحمل أي فكرة جديدة، إنما حملت تكراراً لأفكار سابقة لا تبدو أنها قابلة للعيش أو التطبيق. فكرر الدعوات إلى انتخاب رئيس للجمهورية، وإنجاز الإصلاحات، وأضاف إليها التذكير بضرورة التمديد لقائد الجيش لمنع الشغور من المؤسسة العسكرية. أما الفكرة الثالثة القديمة الجديدة فهي تثبيت الاستقرار في الجنوب، مع استخدام عبارة جديدة وهي “تعديل القرار 1701” أو إنشاء منطقة عازلة.
وغالباً ما تطرح القوى الدولية شعارات من هذا النوع لا تكون على الإطلاق قابلة للتطبيق. فحتى القرار 1701 عندما أقر في العام 2006 وبعد حرب مدمرة استمرت لـ33 يوماً، لم يتم تطبيقه. ما يجعله بعيد المنال في هذه المرحلة التي لا وجود لأي رؤية سياسية أو دولية جدية تجاه المنطقة. لا بل إن بعض المسؤولين في الخارج يفضلون ترك منطقة المشرق العربي غارقة في أزماتها وانهياراتها، بشرط أن لا تؤثر هذه الانهيارات على دول أخرى.
كان لا بد من كل هذه المقدمات للدخول في المقترح الدولي الجديد حول تطبيق القرار الدولي 1701 في جنوب لبنان، أو ما يسعى البعض إلى تسميته بإنشاء منطقة عازلة على الحدود، لضمان أمن اسرائيل وتوفير الاستقرار الذي يسمح لسكان المستوطنات بالعودة إلى مناطقهم.
تفاوض بالنار
هو ملف جديد ستسجّل حوله سجالات كثيرة في المرحلة المقبلة، لبنانياً وخارجياً، كما كان الحال أيام مفاوضات ترسيم الحدود البحرية، بين من طالب بالخط 29 ومن طالب بالخط 23، على وقع تهديدات بحروب ومعارك، كلها أفضت في النهاية إلى حل غير كامل للترسيم البحري. إذ بقيت منطقة عالقة تعرف بنقطة b1. جزء من هذه السجالات سيتجدد حالياً، على وقع من يطالب بتطبيق الـ1701، ومنع الانتشار المسلح في الجنوب.. مقابل فكرة أخرى تشير إلى سحب قوات الرضوان، أي قوة النخبة في حزب الله، من الجنوب، نظراً لقناعة تتصل بانعدام القدرة على منع وجود الحزب في جنوب نهر الليطاني. فيتم التعويض عن ذلك بسحب القوة “المقاتلة” فيه. علماً أنه بالنسبة إلى حزب الله، لا الـ1701 بصيغته القديمة، ولا وفق المقترحات الجديدة وكل المسميات، سيكون قابلاً للتطبيق. كما أن الحزب يبدو على يقين بعدم قدرة أي طرف على شن معركة عسكرية لتحقيقه. فإسرائيل تعثرت في غزة، ولم تحقق أي نتيجة عسكرية، ولم يتمكن المناخ الدولي الداعم لها من إكمال دعمه، فيما الجبهة اللبنانية تسبق جبهة غزة بأضعاف مضاعفة.
ليس كل ما يجري سوى نوع جديد من تمديد الأزمات وزيادة منسوب السجالات من حولها. كما أنها تحتوي على نوع من التفاوض الإقليمي والدولي، ولو اقتضى ذلك بعضاً من التفاوض بالنار ليحسن كل طرف شروطه من دون الذهاب إلى معركة عسكرية مفتوحة، يخرج منها غالب ومغلوب، من شأنها أن تعيد رسم ملامح المنطقة.
كل ما يتم طرحه لن يكون قابلاً للتطبيق، إلا وفق الطريقة التي قام عليها مبدأ ترسيم الحدود البحرية، بحلول معلّقة لا نهائية، ستنسحب على مسار الترسيم البري، بإنهاء الخلاف حول نقاط وإبقاء نقاط أخرى معلقة، من شأنها أن تبقي السلاح متأهباً، وتطيل أمد السجال السياسي الداخلي ذات الواقع الإنقسامي، بشكل يتيح تظهير الواقع بما يشبه ما بعد حرب تموز، من دون إيجاد حلّ لمزارع شبعا وتلال كفرشوبا، وبشكل تبقى هذه المناطق معلقة المصير، وبصورة تتيح لإسرائيل أن تعيد مستوطنيها إلى “مناطق الشمال”.
وبعدها يتفرغ اللبنانيون إلى منازلة بعضهم بعضاً.