“إنّ حرب إسرائيل على غزة مبرَّرة مبدئياً” ولا يجوز وصفها بأنّها تشبه المحرقة أو الإبادة. ومع أنّ على إسرائيل مراعاة الملاءمة والتوازن، فإنّه لا يجوز القبول على الإطلاق بصعود العداء للسامية، وأن يتلقّى اليهود بألمانيا من جديد تهديدات. فـNever Again تعني وحسب إنكار العداء للسامية، والساميّون هم اليهود حصراً(!)، وعلينا الإصرار على البقاء إلى جانب إسرائيل وحقّها في البقاء وفي الدفاع عن نفسها. هذا ملخّص البيان الذي أصدره الفيلسوف هابرماس مع عددٍ من زملائه وتلامذته في 15 أكتوبر في دعم الحرب الإسرائيلية على غزة. والحجّة ليست الدفاع عن النفس ضدّ تنظيم إرهابي وحسب، بل والعداء للساميّة وللدين اليهودي الذي يحرّك الهجوم، وينبغي استنكاره واستنكار بعض الحملات العنصرية على اليهود بألمانيا.
الأمر هناك ذو شقّين:
الشقّ الأول: الإجماع الألماني على دعم إسرائيل.
الشقّ الثاني: موقف هابرماس ودوافعه ونتائجه في الحياة الفكرية الألمانية والغربية.
ماذا يحصل في ألمانيا؟
منذ الثامن من أكتوبر الماضي برز إجماع ألماني، سواء من جانب الأحزاب المشاركة في الحكومة أو من وسائل الإعلام، على دعم إسرائيل ومساعدتها بالسلاح والمال، والعمل داخل الاتحاد الأوروبي على عدم اتّخاذ قرارات ضدّها بسبب الحرب الوحشية في غزة. بل ومثل بريطانيا وفرنسا حاولت الحكومة الألمانية منع التظاهرات الداعية إلى وقف الحرب، وهدّدت بسحب الجنسية ممّن يدعمون الفلسطينيين! وبدون تعديلٍ في الموقف “المبدئي” تقدّمت بعض الدول الأوروبية مثل إسبانيا وبلجيكا بمقترحات لوقف الحرب وتكثيف المساعدات وعرض مشروع للحلّ السياسي شاركت في وضعه ألمانيا، وهو ما صار يُسمَّى بحلّ الدولتين.
كلّ الفلاسفة الألمان ضعفاء في مواجهة الآلام اليهودية الحقيقية أو المدّعاة. وهابرماس عندما ذهب إلى محاضرات أكاديمية بإسرائيل عام 2010 اعتبر الدولة العبرية منارةً للعالم في الديمقراطية
أمّا لجهة يورغن هابرماس وزملائه فإنّ الدوافع لديهم لا تختلف عن دوافع الحكومة وشعار “Never Again” الذي يعني لا عودة للممارسات النازية ضدّ اليهود التي أفضت إلى الهولوكوست الذي يقال إنّ ستّة ملايين يهودي سقطوا فيه. وهابرماس نفسه هو أكبر الفلاسفة المعاصرين الباقين (عمره 94) من مدرسة فرنكفورت النقدية. وهي مدرسة في الفلسفة الاجتماعية ذات ميول ماركسية تأسّست بألمانيا عام 1923 ومعظم أعضائها من اليهود، وناضلت في الأكاديميا ضدّ التفرقة العنصرية، وضدّ سيطرة السوق الرأسمالية والهيمنة في المجال العالمي. وقد تابعت النضال في مدرسة نيويورك الجديدة في الحقبة النازية، وعاد بعض أركانها إلى ألمانيا بعد الحرب. وهي ذات نزعة تشاؤمية في ما يتعلّق بنظام العالم السائد. لكنّ هابرماس الذي كان مساعداً لثيودور أدورنو أحد أعلام المدرسة إلى جانب ماكس هوركهايمر، بدا أكثر تفاؤلاً من أساتذته وزملائه فدعا في فلسفته التداوليّة إلى العودة إلى قيم التنوير (في العقلانية والحرّية والعدالة والتضامن والسلام) من طريق التداول الواسع، والالتقاء على قواسم مشتركة تتجدّد بالمزيد من الحوار في مشكلات العالم. وفي حواره مع البابا السابق بنديكتوس عام 2004 بدا متقبّلاً للحاجة إلى الدين وإشراك المتديّنين في الحوار والاعتداد بآرائهم وتوجّهاتهم.
إنّ هذا الانفتاح “الهابرماسي” لا يسري على الإسلام، ولا على القضية الفلسطينية. ففي حواره مع داريدا فيلسوف ما بعد الحداثة الفرنسي بعد عام 2001، الذي نُشر في كتاب: الفلسفة في زمن الإرهاب، والذي ركّز فيه على الدفاع عن قيم التنوير التي لا يقول بها داريدا، بدا متّفقاً معه على إنكار الهيمنة الأميركية، وإنكار الإرهاب الإسلامي متسائلاً عن وجود وجهٍ آخر لهذا الإسلام.
الضعف الألماني والآلام اليهودية
كلّ الفلاسفة الألمان ضعفاء في مواجهة الآلام اليهودية الحقيقية أو المدّعاة. وهابرماس عندما ذهب إلى محاضرات أكاديمية بإسرائيل عام 2010 اعتبر الدولة العبرية منارةً للعالم في الديمقراطية وإنسانية الإنسان وصنع الجديد والمتقدّم للإنسانية. في تصريحه الجديد بعد وقعة 7 أكتوبر أضاف إلى “منارته” عناصر: أنّ كلّ حربٍ على إسرائيل هي حرب على الدين اليهودي وكراهية وعداء للسامية، وأنّ واجب ألمانيا وأهل الحضارة الغربية الوقوف إلى جانب إسرائيل واليهود، وأنّ كلّ صرخةٍ ضدّ إسرائيل في ألمانيا تستحقّ الإدانة والاستنكار. وعلى الرغم من الخسائر المدنية المذهلة في غزة فلا يجوز تشبيهها بالإبادة ولا بالهولوكوست الذي لا مثيل له!
بالطبع ردَّ عديدون على هابرماس، وذكّروه بعالمية المقاييس وشمولها. كما ذكّروه بأنّ الأرض الفلسطينية محتلّة، وأنّ مدنيّي إسرائيل الذين ينبغي استنكار قتلهم أو خطفهم لا يزيدون في القيمة الإنسانية على أطفال الفلسطينيين.
لا ينبغي الاستهانة بهذا التوجّه الكبير لمصلحة إسرائيل من جانب المفكّرين والإعلاميين الغربيين. فلا ينبغي أن ننسى أنّ اليسار الصهيوني هو الذي أقام إسرائيل وليس اليمين الديني الذي يسيطر الآن ومنذ سنوات على السياسات الإسرائيلية. كما لا ينبغي أن ننسى أنّ العالم الغربي والعالم كلّه لا يميل للجهادية الإسلامية التي تذكِّر بالقاعدة وداعش، وحماس منها. لكنّ وراء ذلك كلّه وأعمق كما يتبيّن كلّ يوم أنّ قيم التنوير التي استُوحي منها ميثاق الأمم المتحدة والإعلان العالمي لحقوق الإنسان، لا يستحقُّها العرب والمسلمون وربّما الأفارقة والآسيويون، لأنّهم لم يتأهّلوا لها، ولا يستطيعون التصرّف انطلاقاً منها! ولذلك أمكن لإسرائيل التمرّد على صرخات الأمين العامّ للأمم المتحدة وكلّ نداءات الاستغاثة من المنظمات الإنسانية الدولية.