منذ الإستقلال عام 1943 إرتبط مصير لبنان بمصير الجيش اللبناني الذي كان ولا يزال رمز هذا الحدث المؤسس للكيان اللبناني بعد الإعلان الأول عن قيام دولة لبنان الكبير في أول أيلول 1920. ولكن بعد ثمانين عاماً لا يزال الجدل مستمراً حول دور هذا الجيش ودور قائده. فهل كان في الأساس لحماية الحضور المسيحي في الدولة المستحدثة أم لحماية الدولة بكل مكوناتها؟ وهل الصراع اليوم حول منصب القائد يدخل ضمن هذا الإطار؟ وهل المطلوب قلب المعادلة بحيث يصير الجيش حامياً لظهر «حزب الله» وفصيلاً من فصائل محور الممانعة؟
في أمر اليوم الذي وجّهه العماد جوزاف عون إلى العسكريين في مناسبة الإستقلال أشار إلى أن «المؤسسة العسكرية تقف اليوم أمام مرحلة مفصلية وحساسة في ظلِّ التجاذبات السياسية، في حين تقتضي المصلحة الوطنية العليا عدم المساسِ بها، وضمان استمراريتها وتماسكها والحفاظ على معنويات عسكرييها». كما دعا العسكريين إلى «الجهوزية كي تبقى المؤسسة حاضرة لمواجهة التحديات والتطورات في هذه المرحلة الصعبة، والأخطار التي تهدّد لبنان وعلى رأسها العدو الإسرائيلي». ربما هذا هو الأمر الأخير الذي يوجّهه العماد عون إلى العسكريين. فهو ينتظر استحقاق إحالته إلى التقاعد في 10 كانون الثاني المقبل بينما يستمرّ الخلاف حول إمكانية التمديد له أو تأجيل تسريحه فيما يواجه لبنان والجيش مرحلة دقيقة وخطيرة بسبب الحرب الدائرة في الجنوب بين «حزب الله» وإسرائيل انعكاساً للحرب الدائرة في غزة.
جيش الدولة أم الطائفة؟
لا يتعلّق الخلاف حول استمرار عون في موقعه بشخصه وأدائه فقط، بل بالنظرة إلى هوية القائد وانتمائه وتاريخه الشخصي والعسكري ومستقبله، وإلى هوية الجيش ودوره. منذ الإستقلال لم تغب هذه الجدلية حول دور هذا الجيش وقيادته وتركيبته. من الأساس تمّ ربطه بالدور المسيحي في الدولة وبأنّه كان لحماية هذا الدور. ولذلك تعرّض لخضّات كثيرة ولعمليات جراحية مكلفة، خلال الحرب وبعدها، لإعادة صياغة هذا الدور على أسس تُناقض المهمة التي وجد من أجلها، وهي حماية الدولة والمؤسسات والكيان والحدود والتوازن داخل السلطة.
منذ تسلّم اللواء فؤاد شهاب العلم اللبناني وراية قيادة الجيش بعد الإستقلال كانت النظرة إلى هذا الجيش على أنّه جيش المسيحيين، وكانت هذه النظرة مرتبطة بالموقف من تكوين الدولة اللبنانية واعتبارها وليدة الإستعمار الأجنبي والإنتداب الفرنسي، وأنّها وُجدت أصلاً لكي تكون دولة للمسيحيين، بينما لم يكن الواقع كذلك. وهذا ما يفسّر لاحقاً كيف ولدت نظرية أن الفلسطينيين هم جيش المسلمين في لبنان، وكيف تمّ التشكيك بدور هذا الجيش وصولاً إلى تقسيمه ألوية طائفية. ولكن كلّ ذلك لم يحل دون أن يبقى الجيش قوة مركزية واجبة البقاء لحماية الدولة من مقرّ القيادة في اليرزة، وفي ظلّ قائد واحد له.
فالجيش الذي كان موضع تشكيك هو الوحيد بين الجيوش العربية الذي قاتل الجيش الإسرائيلي داخل فلسطين في المالكية في أيار وحزيران 1948. وهو الذي واجه أول محاولة انقلاب نفّذها الحزب السوري القومي الإجتماعي بزعامة أنطون سعادة في تموز 1949، بعد شهرين فقط على أول انقلاب نفّذه قائد الجيش السوري في سوريا حسني الزعيم. وإذا كانت حرب 1948 أسّست لسلسلة انقلابات في عدد من الدول العربية، من سوريا إلى مصر والعراق والجزائر وليبيا واليمن، جعلت الجيوش تمسك بالسلطة وتؤسّس لحالات اضطراب أمني وسياسي ولانقلابات متتالية، فإن الجيش اللبناني بقي تحت سقف السلطة السياسية، وبقيت هذه السلطة تطبّق مبدأ التداول الديمقراطي الذي ميّز النظام اللبناني عن معظم الدول العربية.
تجري الإنتخابات النيابية، وتتشكّل الحكومات، ويتغيّر الرئيس، ويبقى النظام بغضّ النظر عن الملاحظات الكثيرة التي شابت الممارسة السياسية والديمقراطية التي بقيت تحت سقف احترام النظام والدولة والمؤسسات. وهذا ما جعل لبنان مميّزا في نظامه في الشرق الأوسط وأهّله ليكون بحقّ سويسرا الشرق ونعيماً لكل اللبنانيين بغضّ النظر عن طوائفهم وانتماءاتهم. ولكن كل ذلك لم يمنع الحرب على هذا النظام وعلى الجيش من أجل تدمير هذه الصورة لخلق نظام آخر وجيش آخر.
جيش ونظام ومقاومة
في تاريخه الممتد على مدى ثمانين عاماً عرف لبنان ونظامه والجيش سلسلة محطات وتحولات لم يكن فيها هذا الجيش حامياً للمسيحيين أو لرئاسة الجمهورية أو متناغماً مع الرأي العام المسيحي.
في العام 1958 مثلاً، خلال الثورة التي دعمها الرئيس المصري جمال عبد الناصر ضدّ حكم الرئيس كميل شمعون، لم يكن للجيش اللبناني دور أساسي في حماية العهد. كان الجيش لا يزال بقيادة اللواء فؤاد شهاب الذي كان قراره واضحاً في عدم زجّ الجيش في المواجهات خوفاً عليه من الإنقسام. وقد نجح في تحييده على رغم اختلاف موقفه عن موقف شمعون، وأصبح رئيساً للجمهورية خلفاً له عام 1958 في تسوية حصلت بين واشنطن والقاهرة.
طوال عهد شهاب وفي عهد الرئيس شارل حلو الذي خلفه لم يكن دور الجيش اللبناني يتماهى مع الرأي العام المسيحي الذي كان يمثّله شمعون خلال رئاسته واستمرّ يمثّله بعدها. كان انقلاب الحزب السوري القومي الإجتماعي في آخر العام 1961 مؤشّراً لبداية مرحلة جديدة من الصراع بين شهاب وشمعون بعد اتهام الأخير بأنّه كان مؤيّداً لهذا الإنقلاب، وبعد تدخّل البطريرك الماروني مار بطرس بولس المعوشي لمصلحة شمعون ضد شهاب، بعدما كان معارضاً لشمعون في العام 1958.
نتيجة هذا الإنقلاب الفاشل أمسك المكتب الثاني بمفاصل السلطة وسعى إلى حماية عهد فؤاد شهاب من خلال التنسيق العملاني واليومي تقريباً مع الحكم الناصري في مصر، ومن خلال محاربة الشمعونية في الداخل. ولكن على مدى هذه المرحلة بقي الجيش محافظاً على النظام وعلى حدود الدولة وبقي القوة الأبرز والوحيدة المدافعة عن الأمن والحدود. وحتى بعد انتهاء عهد شهاب الذي أوصى بانتخاب الرئيس شارل حلو سعى الجيش بقوة المكتب الثاني الى الحفاظ على دوره كممسك بعهد الرئيس الجديد.
ولكن كل ذلك لم يمنع التحوّل الكبير الذي طرأ على دوره. على رغم تنسيقه المستمرّ في القضايا الكبيرة والصغيرة مع عبد الناصر بدأ الإنقلاب على هذا الجيش من خلال إطلاق العمل الفسطيني المسلح في لبنان اعتباراً من العام 1965 وصولاً إلى توقيع قائد الجيش العماد إميل البستاني «اتفاقية القاهرة» في 3 تشرين الثاني 1969، التي اعتُبِرت الحدّ الفاصل بين زمنين وتاريخين. زمن سيطرة الجيش على الأمن، وزمن التنازل عن السيادة اللبنانية لمصلحة السلاح الفلسطيني الذي بدأ قسم كبير من المسلمين واليسار اللبناني يعتبر أنّه الجيش البديل عن الجيش الأصيل المتّهم بأنه منحاز إلى المسيحيين في تركيبته، وبأنه الإبن البار للكيان اللبناني الهجين والغريب عن هوية المنطقة الإسلامية وعن قضية فلسطين.
جيوش أم جيش؟
لا شك في أنّ العلاقة بين الجيش والرئاسة عرفت انتكاسة كبيرة بعد انتخاب الرئيس سليمان فرنجية كترجمة للصراع الذي كان قام منذ العام 1968 بين النهج المؤيّد لفؤاد شهاب وللعلاقة مع النظام المصري، وبين «الحلف الثلاثي» الذي مثّل انتفاضة لبنانية بطابع مسيحي للدفاع عن النظام وحمايته. ولكن إبعاد ضباط الشعبة الثانية ومحاكمة بعضهم، وتعيين قائد جديد للجيش، العماد جان نجيم، ثم العماد اسكندر غانم، ومدير جديد للمخابرات هو العميد جول بستاني، لتكون القيادة متناغمة أكثر مع توجهات الحكم الجديد، لم يمنع انزلاق لبنان نحو الحرب.
بدا واضحاً أنّ هذا الجيش لم يكن مسموحاً له، ولا قادراً ربما، على أن يستعيد السيادة من الفلسطينيين، وبدا واضحا أنّ لبنان ذاهب إلى الحرب وكان من نتيجة كل ذلك انقسام الجيش اللبناني عام 1976 في محاولة لضرب قيادته. ولكن كل ذلك لم يمنع من أن تبقى القيادة في اليرزة ممسكة بقرار الجسم الأساسي للمؤسسة وبالدفاع عن الدولة والنظام. إذا كان الرئيس الياس سركيس نجح في إعادة توحيد الجيش واستعادة دور الشعبة الثانية مع العميد جوني عبدو، إلا أن النظرة المعاكسة إلى دور الجيش لم تتغيّر. في العام 1983 ثم في العام 1984 أعيد تقسيم الجيش ألوية طائفية. وكانت معارك العماد ميشال عون في حرب التحرير ثمّ في حرب الإلغاء وفي معركة 13 تشرين، كافية للقضاء على ما تبقّى من بنية أساسية للجيش المدافع عن الدولة والنظام. وهذا الأمر مهّد لصياغة جديدة للجيش وتركيبته وأدّى إلى عملية «تنظيف» تخدم عهد الوصاية السورية وسيطرة «حزب الله» لاحقا على الدولة وعلى الجيش وقراره وقرارات السلطات الأمنية.
الجيش لمن؟
الحرب الدائرة اليوم على موقع قيادة الجيش وبقاء العماد جوزاف عون فيها لا تخرج عن محاولات السيطرة على الجيش وإعادته إلى حيث وضع في عهد الوصاية السورية وقيادة العماد إميل لحود. بعد ثورة الإستقلال في 14 آذار 2005 تبدّلت طريقة إدارة الجيش مع العماد ميشال سليمان ثم مع العماد جان قهوجي، وصولاً إلى العماد جوزاف عون. مسألة كيفية اختيار قائد الجيش هامّة، ولكنّ الأهمّ يبقى في طريقة إدارته للمؤسسة خصوصاً في مثل هذا الظرف الذي كما قال عنه العماد عون: «في الذكرى الثمانين للاستقلال، نستحضر معاني التضحية والحرية، ونعود بوجداننا إلى محطات لامعة، تروي للأجيال قصة وطن حُفِر اسمه في أعماق التاريخ، ونضال خاضه أجدادنا الذين رأَوا في لبنان وطناً نهائيّاً يحتضن أحلامهم ومستقبل أبنائهم، فبذلوا الغالي والنفيس من أجل حمايته والحفاظ عليه». فهل المطلوب جيش وقائد على قياس هذا الوطن، يحمي لبنان واللبنانيين؟ جيش فؤاد شهاب؟ أم على قياس «حزب الله» ومحور الممانعة؟ إذا كان من غير المقبول أن يكون الجيش حامي المسيحيين، فلماذا يكون كما يراد لرئيس الجمهورية أن يكون، يحمي ظهر «المقاومة» ولو انكسر ظهر لبنان؟