كما في العسكر كذلك في القضاء تُسيطِر العبثية على مسار إيجاد الحلول لاستحقاقات يفترض أن تحكمها القوانين، لكنّ القرار السياسي فيها يعلو على أيّ صوت آخر.
بين قيادة الجيش وما يحصل راهناً في القضاء خيط سميك يكشف حال الفوضى والتخبّط على مستوى أخذ القرار، وهو واقع لا يبدو قابلاً للتغيير في المدى المنظور.
على مستوى استحقاق قيادة الجيش، وقبل الإعلان عن جلسة مجلس الوزراء اليوم بجدول الأعمال نفسه لجلسة الثلاثاء، لم يَكن “التوافق السياسي” الذي تحدّث عنه الرئيس نجيب ميقاتي حول التمديد للعماد جوزف عون أو تعيين رئيس أركان قد تأمّن بعد في ظل تصعيد النائب جبران باسيل وموقف الحزب “الرمادي”، و”فَزَع” ميقاتي من “دعسة ناقصة”، وربط البعض ملف التمديد بتطوّرات غزة وما يحصل على الجبهة الجنوبية.
مع ذلك، عكست مصادر مطلعة مساء أمس مناخات تشي باحتمال إقرار التمديد لقائد الجيش في جلسة اليوم بقرار صادر عن مجلس الوزراء ولمدة ستّة أشهر بعد طرح الملف من خارج جدول الأعمال ومن باب “الضرورة الملحّة” بناءً على الدراسة القانونية للأمانة العامّة لمجلس الوزراء، في الوقت الذي كان يهدّد فيه باسيل بأنّ “أي حلّ غير دستوري وغير قانوني للتمديد لقائد الجيش سيُقابل بالطعن أمام مجلس الشورى ويعتَبَر كأنّه لم يكن وسيمسّ بوحدة المؤسسة العسكرية”.
المفارقة هي ما تمّ تداوله أمس عبر الواتساب لمقال نشر في موقع “أساس” بتاريخ 27 حزيران 2021 كشف آنذاك توقيع وزيرة الدفاع زينة عكر، المحسوبة على الفريق الوزاري لباسيل، على قرار تأجيل تسريح عضو المجلس العسكري في قيادة الجيش اللواء الياس شامية قبل ساعات من إحالته إلى التقاعد لمدّة ستّة أشهر قابلة للتجديد، وذلك باقتراح من قائد الجيش وموافقة رئيس الجمهورية السابق ميشال عون وباسيل.
نَقَل المقال يومها عن الرئيس عون ما مفاده أنّه “في ظلّ صعوبة تعيين البديل يجب عدم السماح للشغور بالتسلّل إلى المجلس العسكري لانعكاس ذلك على مسار التصويت الذي سينتج عنه خلل طائفي لمصلحة المسلمين”، فيما يجاهر باسيل اليوم بـ “مبدأ” التيار الوطني الحرّ الذي التزم به دوماً برفض “التمديد لأيّ مسؤول تنتهي ولاية خدمته”.
علِم “أساس” أنّ قاضي التحقيق فؤاد مراد تقدّم بشكوى، هي الأولى من نوعها أمام التفتيش القضائي ضدّ الرئيس الأول لمحكمة الاستئناف في بيروت حبيب رزق الله والقاضي بلال حلاوي
نقطة إضافية تُسجّل على باسيل الذي بات على رأس السطح يخوض معركة “قبع” قائد الجيش من اليرزة طالباً المؤازرة من حليفه الحزب… وإلّا “الطلاق”.
معركة العدليّة: بازار من التكليفات
في المقابل ما يجري في القضاء لا يقلّ عبثية عن “فوضى” الاقتراحات في شأن آليّة ملء الشغور في القيادة العسكرية بعد 10 كانون الثاني. هذا الواقع يشكّل نموذجاً لما يمكن أن يواكب الأسابيع الفاصلة عن إحالة مدّعي عام التمييز القاضي غسان عويدات إلى التقاعد في شباط المقبل حيث يُرصَد “كوكتيل” من الأسماء المرشّحة لتسلّم مهامّ رأس النيابة العامّة التمييزية (موقع سنّيّ) ومن ضمنهم قضاة شيعة.
علِم “أساس” أنّ قاضي التحقيق فؤاد مراد تقدّم بشكوى، هي الأولى من نوعها أمام التفتيش القضائي ضدّ الرئيس الأول لمحكمة الاستئناف في بيروت حبيب رزق الله والقاضي بلال حلاوي، وذلك بعد تكليف الرئيس الأول الأخير بمهامّ قاضي التحقيق الأول مكان القاضي شربل أبو سمرا الذي أُحيل إلى التقاعد في 9 تشرين الثاني الجاري.
استكملت هذه الشكوى مساراً من شدّ الحبال حول القاضي الذي يحقّ له قانوناً وعملاً بالتراتبية والأقدمية أن يخلف القاضي أبو سمرا الذي كان يَنظر في ملفّ حاكم مصرف لبنان السابق رياض سلامة والمتورّطين معه في ملفّات هدر المال العامّ والفساد والاختلاس والإثراء غير المشروع.
في نهاية أيلول الماضي أدّى قرار الرئيس الأول حبيب رزق الله تكليف القاضي وائل صادق بالحلول مكان القاضي شربل أبو سمرا بعد تقاعده إلى ما يشبه “الانتفاضة” ضدّ القرار.
يومها تمنّع قضاة التحقيق الأربعة في دائرة التحقيق في بيروت بموجب كتاب رفعوه إلى القاضي رزق الله عن تنفيذ مضمون القرار والامتناع عن تسلّم أو تسجيل أيّ دعوى أو إحالة ترِد إلى أقلامهم بواسطة قاضي التحقيق الأوّل المكلّف ريثما يتمّ الرجوع عن القرار لأنّ الأربعة هم أعلى في الدرجة والأقدمية من “زميلهم”، وهو ما دفع صادق إلى الاعتذار عن قبول التكليف.
المفارقة أنّ القاضي حلاوي الذي عاد وقَبِل التكليف من القاضي رزق الله، على الرغم من عدم مراعاته للتراتبية، كان من ضمن القضاة الأربعة الذين انتفضوا ضدّ قرار الرئيس الأول تكليف القاضي صادق، وهم: فؤاد مراد وبلال حلاوي وفريد عجيب وروني شحادة، ومراد هو القاضي الأعلى درجة المفترض أن يستلم قانوناً مكان القاضي أبو سمرا.
اعترض “نادي القضاة” على التكليفات غير القانونية بمؤازرة من معظم الجسم القضائي بسبب مخالفتها الصريحة للقوانين. كما اشتمّ كثيرون رائحة “محاولة الإتيان بقاضٍ مطواع كشربل أبو سمرا الذي “قامت القيامة” على أدائه في ملفّ سلامة ومعاونيه”.
بين قيادة الجيش وما يحصل راهناً في القضاء خيط سميك يكشف حال الفوضى والتخبّط على مستوى أخذ القرار، وهو واقع لا يبدو قابلاً للتغيير في المدى المنظور
فوضى البديل
لكن ما هي تداعيات شكوى القاضي مراد على “الرئيس الأول” وعلى القاضي حلاوي؟ وما هي نتائج “فوضى البديل” على ملفّ رياض سلامة ومتابعته قضائياً؟
ملفّ رياض سلامة مكبّل حالياً بفعل “شربوكة” قضائية معقّدة. فبعد قرار أبو سمرا ترك سلامة رهن التحقيق حتى انتهاء جميع التحقيقات استأنفت رئيسة هيئة القضايا في وزارة العدل القاضية هيلانة إسكندر في 3 آب الماضي قرار أبو سمرا أمام الهيئة الاتّهامية في بيروت طالبة توقيف سلامة، فقبلت “الهيئة” الاستئناف المقدّم من إسكندر وحدّدت جلسة لسلامة لم يحضرها.
بعدئذٍ قدّم محامو سلامة طلبات تنحٍّ وردّ ومخاصمة القضاة بحقّ الهيئة الاتّهامية برئاسة القاضي ماهر شعيتو. والأخيرة رَمت الكرة في ملعب الهيئة العامّة لمحكمة التمييز غير المكتملة للنظر في طلبات الردّ.
في مقابل وجهة نظر قضائية تقول بأنّ القاضي حلاوي المُحال إلى التفيتش بناءً على شكوى من “زميله” القاضي مراد يستطيع أن يستكمل التحقيقات بملفّ سلامة لأنّ دعوى مخاصمة القضاة تطال فقط شخص أبو سمرا، هناك وجهة نظر قضائية مضادّة تقول بأنّ حلاوي، إذا قُدّر له أن يبقى قاضي تحقيق أوّل مكلّفاً، لا يستطيع أن يستأنف عمله قبل إصدار “الاتهامية” ردّها في شأن استئناف قرار ترك سلامة رهن التحقيق.
في مطلق الأحوال، مُنِح سلامة بحكم استمرار الشغور الرئاسي واستفحال الأزمات السياسية وأحداث غزّة “فترة نقاهة” أطول قبل أن يَمثل مجدّداً أمام المحقّقين في وقت يجزم فيه مطّلعون أنّه لم يغادر لبنان ويعيش حياة شبه طبيعية على الرغم من غزارة الدعاوى القضائية ضدّه ووجود مذكّرة إنتربول بتوقيفه ووجود ادّعاء عليه من الدولة اللبنانية.