بينما تستمر عمليات المشاغلة على حدود لبنان الجنوبية مع جيش الاحتلال الإسرائيلي وترتفع عقيرة الحوثيين في اليمن ببيانات إطلاق الصواريخ والمسيرات وتصدر بيانات الحشد الشعبي في العراق معلنة قصف قواعد أميركية ضمن حركة منسقة المستوى والأهداف… يبدو الطقس في دمشق جميلاً ويتخذ النظام السوري وضعية المتفرِّج على مقاعد الحياد في مواجهة يُفترض انّها تعني المحور الإيراني في العواصم الأربع الواقعة تحت قبضة طهران، وهذا الأمر أصبح أحد العيوب الكبيرة لشعار «وحدة الساحات»، فبشار الأسد يغرِّد وحده، بل إنّه لا يُبدي حتى التضامن الشكلي مع غزة وحركة «حماس».
يمنع النظام السوري التحرّكات الشعبية المناصرة لغزة ويفرض صمتاً سياسياً على المواقف بحيث يبقى في المنطقة الرمادية من دون أن يغادرها إلى مساحات المحور الإيراني المشتعلة، ولو شكلياً، حتى يظنّ العابر في دمشق أنّ عاصمة بلاد الشام تقع في كوكبٍ آخر، ولم تعد «قلب العروبة النابض» كما يحلو لجمهور المحور أن يتغنى بتسميتها، والأهمّ أنّه يردع كلّ محاولات إطلاق الصواريخ والقذائف والمسيرات من الأراضي السورية باتجاه الجولان المحتل… قولاً واحداً وقراراً واحداً، لهذا أصبح «حزب الله» مضطراً لرمي بعض الصواريخ على الجولان انطلاقاً من زواية الحدود اللبنانية السورية في مزارع شبعا، وهذا يعني وجود إشكالية سياسية واضحة تفرِّقُ بين أعمدة المحور وتعكس أزمة صامتة تتكلّم عنها الوقائع.
هناك من يجعل سبب موقف النظام السوري من الحرب على غزة في سياق الانتقام من حركة «حماس» على خلفيّة سلوكها الرافض للتضامن مع النظام أوّل الثورة السورية ثم واقعة حصار مخيم اليرموك واتخاذ مجموعات من «حماس» قرار المواجهة في ذلك المخيم الذي ذاق الحصار والويلات، كما ذاقتها مخيمات بيروت في حصار حركة «أمل» لها بعد الغزو الصهيوني لبيروت عام 1982، ويستدلّ هؤلاء على فشل المصالحة التي رعاها «حزب الله» بين «حماس» ونظام الأسد وبقاء العلاقات بين الجانبين في حالة مواجهة باردة.
لكنّ العارفين ببواطن الأمور يعتبرون أنّ هذا ليس سبباً كافياً لهذا الموقف السوري البارد من حرب مصيرية يشهدها الإقليم، ويذهبون إلى اعتبار أنّ العلاقات العربية والدولية التي استطاع بشار الأسد إعادة حياكتها مع الرياض وأبو ظبي خصوصاً ومع دوائر أمنية أميركية وغربية تدفعه إلى التموضع الصامت في هذه المرحلة، لأنّه أولاً تبقّى تهديدات أميركية إسرائيلية حاسمة بأنّ تدخّله يعني تلقي ضربات مباشرة لرأس النظام، ولأنّه يبحث، ثانياً، عن صفقة تشبه الصفقة التي عقدها حافظ الأسد عشية حرب الخليج الثانية عندما انضمّت دمشق إلى حلفاء الولايات المتحدة في حربها ضدّ الرئيس العراقي الراحل صدام حسين، وحصدت من بعدها تفويضاً بالسيطرة على لبنان امتدّ حتى لحظة اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري.
تفيد المعلومات المتقاطعة بين بيروت ودمشق بأنّ أزمة حقيقية نشأت بين الحرس الثوري الإيراني والنظام السوري بسبب إصرار الأسد على منع استخدام الأراضي السورية منطلقاً لعمليات ضدّ الاحتلال الإسرائيلي في الجولان، مما دفع قيادات رفيعة المستوى في «حزب الله» إلى التدخّل لرأب الصدع وتهدئة الأوضاع المتوترة بين الجانبين.
رفض بشار الأسد الانخراط في اللعبة الإيرانية بالمشاغلة على مستوى المنطقة وهو مستمرٌّ حتى الساعة في عدم مجاراة إيران، وهذا الأمر خلق عنصر تعطيل لا يُستهان به في شريان المحور الممتدّ من طهران إلى دمشق فبيروت، وهذا الواقع يحمل الكثير من الحرج لمحور «وحدة الساحات» لأنّ أهل كلّ ساحة يحاولون النجاة بأنفسهم، بينما تواجه غزة مصيرها وحيدة، وتحاول جاهدة التموضع في المساحة العربية بعد سقوط كلّ نظرية المحور الإيراني عن نصرة فلسطين وتحرير القدس.