الجغرافيا قدر في السياسة، ولا مجال للهروب منها، خصوصاً في لحظة الحروب وتداعياتها. وعادة هناك دول تسعى إلى اختلاق جغرافيا سياسية تمنحها دوراً أوسع من حدودها. ودول أخرى تنبذ جغرافيتها ولو أدى ذلك إلى “عزل نفسها”.
مجاورة فلسطين
على هذا المنوال شكلت الجغرافيا الفلسطينية، بوجود “دولة إسرائيل”، العنوان الأبرز لكل القضايا والتطورات العربية. وهي كانت قضية محورية لجميع العرب وكثيرين في العالم. تاريخياً، استفاد حافظ الأسد من جغرافية سوريا السياسية للعب أدوار متعددة على مسرح الشرق الأوسط باسم تلك القضية. في المقابل، حاول صدام حسين ومعمر القذافي، خلق هوامش جغرافية تلتصق بحدود فلسطين، من خلال البحث عن علاقات مع جماعات سياسية وأحزاب وتنظيمات مسلحة، ليتمتعا بنفوذ خارج حدودهما، أيضاً انطلاقاً من القضية الفلسطينية.
أما لبنان، الذي كانت دولته تتواضع عن أي نفوذ خارجي، فكانت هذه الجغرافيا أشبه باللعنة، وراحت القضية الفلسطينية تتحول إلى معضلة عميقة تهدد جغرافيته أو وجوده على الخريطة أصلاً. وهذا ما تفاداه الأردن مراراً.
في المقابل، برزت إيران البعيدة جغرافياً كأفضل من حقق نجاحاً في النفوذ باسم القضية، متلحفة بخطاب ديني أمّن لها اختراقاً لكل الجغرافيات الوطنية. فعقدت التحالفات ووفرت الدعم لجماعات وطوائف بعدما أخرجتها من إسار دولها، سواءً داخل فلسطين أو على حدودها.
“النجاح” الإيراني
لذا، في كل المشهد القائم اليوم، تتقدّم إيران على حساب غالبية العرب، فيما لا يظهر أي دور لسوريا، وتبدو مصر بموقف ضعيف نسبياً، على الرغم من موقفها المبدئي في رفض تهجير الفلسطينيين من قطاع غزة واعتباره بمثابة إعلان حرب.
وامتداداً لـ”النجاح” الإيراني، يتقدم في المشهد أيضاً حزب الله، والذي قرر ويقرر دور لبنان. ولبنان هذا يشكل مرآة وانعكاس لحقبات طويلة من الصراع في سبيل القضية الفلسطينية. وهو يمثل الآن واحداً من أبرز نتائج حالة التشظي العربي والضعف الذي أصيب به العرب في السنوات الأخيرة بعد مسار طويل من الإخفاقات، لا مجال للغوص في استعادتها حالياً. ولكن يمكن تسجيل محطات أساسية منه، أبرزها الخسارة العربية في العراق، وسوريا ولبنان، انطلاقاً من الموقف من القضية الفلسطينية والربيع العربي.
مناهضة الثوررات
اليوم، هناك وجهة نظر عربية تكتفي بالتعاطف مع الفلسطينيين وحقوقهم، وتعارض حركة حماس، بل وتخاصمها. وتعتبر أن عملية “طوفان الأقصى” من شأنها أن تجدد الروح بثورات الربيع العربي، أو تعيد الاعتبار للأخوان المسلمين، شعبياً وسياسياً. ولذا، تتمنى إخفاق حماس أو حتى ضربها عسكرياً وسياسياً، ولو أدى ذلك إلى الإمعان في طمس القضية الفلسطينية وإلحاق الأذى بالشعب الفلسطيني.
ليس الأمر جديداً، فمنذ انطلاقة الثورة الفلسطينية، بمؤازرة “أنظمة ثورية” يتصدرها جمال عبد الناصر، كانت معظم الأنظمة العربية تخاصم عبد الناصر وتتوجس من منظمة التحرير الفلسطينية، رغم كل التأييد والتعاطف “الجماهيري”.
كانت الترجمة في لبنان، مع انقسامه بين “الحركة الوطنية” المتحالفة مع منظمة التحرير وسلاحها، وتيار “الجبهة اللبنانية” الذي يلقى دعماً وتأييداً من دول عربية تقليدية. وما الحرب المندلعة عام 1975 إلا نتاج هذا الانقسام، والذي أدى إلى اغتيال زعيم الحركة الوطنية كمال جنبلاط ودخول النظام السوري إلى لبنان، وصولاً إلى التآمر المتوّج باجتياح 1982 وإخراج ياسر عرفات في بيروت وإضعافه، وبدء مرحلة “تناتش” القضية الفلسطينية والاستثمار الإقليمي فيها مجدداً.
حدث هذا بالتزامن مع بداية صعود إسلام سياسي ثوري وعنيف، انطلاقاً من انتصار الخمينية في إيران، سيبدأ يأخذ مكانه ودوره في مسار القضية الفلسطينية.
باسم فلسطين
محطة أخرى لا بد من الوقوف عندها، حين غزا صدام حسين الكويت، ولم يتردد أن يبرر ذلك باسم تحرير فلسطين! فكانت هزيمته وبالاً إضافياً على العرب وعلى القضية، عدا عن كونها غذت الخصومة العربية التقليدية لرافعي الشعارات المماثلة، أكانت آتية من إيران أو من أنظمة بعثية أو “تقدمية” عسكريتارية.
الاجتياح الأميركي للعراق، استفاد منه الإيرانيون باسم المقاومة، ليتراجع الموقع العربي أكثر فأكثر. ثم أتت مرحلة الربيع العربي، والذي كان سياقاً شعبياً ومساراً طبيعياً، إلا أنه تحول إلى خريف بفعل سياسات وتقاطعات دولية. فتمكنت حينها إيران أيضاً من مراكمة نفوذها في سوريا ولبنان واليمن باسم التصدي للمؤامرة الكونية.
والأمر نفسه يتكرر اليوم إزاء القضية الفلسطينية والحرب على غزة، وتحديداً منذ عملية طوفان الأقصى.
طبيعة الأنظمة العربية في غالبيتها معادية للثورات، وتحديداً الأنظمة السياسية التقليدية، والتي تعتبر خصماً ثابتاً للحركات الثورية أو العسكريتارية التي أنتجت حكم جمال عبد الناصر، أو البعث في سوريا أو العراق. بالإضافة إلى أن طبيعة الدول، مناقضة للحركات الثورية الشعبية أو المسلحة أو لوجود حركات مقاومة. أكبر دليل ساطع نجده مع القضية الفلسطينية هو الصعوبة التي عانتها منظمة التحرير الفلسطينية، لكي يوافق العرب على أنها الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني، وبعد مؤتمرات عديدة، فمراراً حاولت بعض الدول العربية -كل منها لأسبابها الخاصة- أن تحوز هي أو تشارك هي في إدارة القضية الفلسطينية، وغالباً على حساب الفلسيطينيين، في مقابل دول أخرى عزلت نفسها عن القضية وتأثيراتها فغابت عنها.
الثورة والدولة
لقد انفجر التناقض بين منطق الدولة والثورة في الأردن عام 1970، ثم انفجر في لبنان 1975. وهذا يؤكد وجود حساسية تاريخية بين الدول العربية والتنظيمات الثورية المسلحة، مهما كانت أيديولوجيتها.
حركة حماس كانت منسجمة جداً مع ثورات الربيع العربي، خصوصاً أن تنظيم الأخوان المسلمين كان متصدراً لمعظم هذه الثورات ومشهدها، في ليبيا ومصر وسوريا، وكان حاضراً بقوة في الحراكات التي لم تتطور إلى ثورات، في السودان، اليمن، الأردن. بعد إفشال هذه الثورات ومساراتها، والذهاب باتجاه التطبيع مع اسرائيل تحولت حماس وتنظيم الأخوان وغيرها من الحركات القريبة من إيران مثلاً، إلى عدو واضح. ولم تستطع حركة الأخوان المسلمين النجاة إلا بإعادة المياه إلى مجاري علاقاتها مع ايران وحزب الله. وهو ما يدفع بعض الدول العربية إلى عزل حركة حماس أو معارضتها، باستثناء موقف مبدئي لدولة قطر، التي ساندت التغيير في العالم العربي وتفهمت منطلقات الإسلام الاجتماعي قبل السياسي في واقع المنطقة العربية، بوصفه رافداً لحركات التحرر والمقاومة، بالإضافة إلى الإلتزام بدعم القضية الفلسطينية كقضية عربية مركزية.
وإذا كانت اسرائيل تعتبر أنها تخوض حرب وجود مع حركة حماس في غزة، فإن الأنظمة العربية تعتبر نفسها في صراع جوهري مع الحركات المسلحة والتنظيمات المتمردة والأحزاب الإسلامية المعارضة. ولذا، فالسلوك العربي لا يدل على أي اكتراث لمصير حماس أو الشعب الفلسطيني أو القضية ككل، ويحاول قدر الإمكان أن يفصل نفسه عن هذه القضية أو عن دعم الشعب الفلسطيني أو عن مصير الحركة. ويبدو حالياً الانفصال عن القضية الفلسطينية رهاناً خاسراً، ولو عبر محاولة الفصل والتمييز بين حماس والقضية الفلسطينية. ولا يمكن الركون إلى نوايا قد تكون مكتومة بالقضاء على حماس، للعودة إلى مسار وخطط وطموحات تتصل بالتطبيع أو بما يسمى “استقرار”، لصالح مشاريع كبرى اقتصادية واستثمارية، أو في سبيل ترتيب العلاقات مع أميركا والغرب، واحتواء “خطر إيران”.
مصير حماس.. وحزب الله
فإيران التي عرفت كيف تكسب وتربح، في تجاوز الحدود، والتحالف مع مجموعات من أبناء الدول العربية، ودعمها تحت عنوان القضية الفلسطينية، ما زالت تراكم الأرباح وتعزز النفوذ.
لكن في حال نجح مخطط فرض واقع جديد في قطاع غزة، وتوفير انتصار عسكري إسرائيلي على حركة حماس، فذلك سيقود إلى تكشّف أمور عدة، إذا لم يتم توسيع الجبهات من كل الجهات. أي إذا استكانت إيران وصمتت إزاء مصير حماس، سيظهر خواء شعار وحدة الساحات، وستنكشف القيادة الإيرانية بوصفها تضع مصلحة إيران أولاً، بالمعنى القومي للكلمة. وحينها سيكون حزب الله في مأزق مشروعية شعار المقاومة وطريق القدس، ومشروعية سلاحه، وشراكته من لبنان بقضايا المنطقة. وستلّح عليه الإستراتيجية الدفاعية الوطنية، والإلتزام بمبدأ السيادة والقرارات الدولية، وسيدو أنه عامل مسبب لعدم الاستقرار أكثر من كونه عاملاً للردع.
كل هذه الإشكاليات ستكون مطروحة مجدداً، خصوصاً مع صعوبة إعلان أي نصر، وأكثر ما سيتكشف هو حالة “الموت السريري” التي تعيشها سوريا، وهي التي وصفت بأنها إحدى أبرز الساحات، وهي التي لم يعرها أي ذكر أمين عام حزب الله في خطابه الأخير.
لكن مخاطر ذلك أيضاً، ستطال كل العرب بدولهم وشعوبهم واقتصاداتهم ومستقبلهم.
أما في حال لم تحقق إسرائيل نتائج معركتها العسكرية، واستنزفت كل محاولات من دون تحقيق أي إنجاز، وأتى وقف إطلاق النار نتيجة ضغوط دولية، ونجحت حماس بالصمود والبقاء، فإن ايران ستكون شريكة بالربح، أيضاً على حساب العرب، لأن طهران نفسها هي التي ستكون قد رفعت العلم الفلسطيني ولم ينجح أحد برفعه بدلاً منها، وهي التي ستكون حاضرة بقوة على طاولة التفاوض مع الأميركيين ومع غيرهم، تماماً كما حصل من قبل في الاتفاق النووي، وتداعياته في سوريا، لبنان، والعراق واليمن، الأمر الذي أصاب المصالح الإستراتيجية والأمن القومي العربي بأضرار كبيرة، أنتجت في النهاية مساراً للتطبيع والاتفاق مع اسرائيل.
من الخطأ قراءة الشرق الأوسط الكبير من النظرة المالية أو الاقتصادية أو الاستثمارية وحسب، ولا يمكن اقتصار النظرة على تقديم الدعم والمساعدة في سبيل إعادة الإعمار كل مرّة.
ثمة ما يرتبط استراتيجياً بالأمن السياسي، والأمن الإقليمي، وهذا لا يمكن أن يتوفر من دون رؤية سياسية شاملة.