بقدر ما ولّدت المستجدّات الكبرى في المنطقة، وفي مقدَّمها الإعلان عن طريق الهند – الشرق الأوسط – أوروبا، انطباعاً بأنّ لبنان على هامش هذه المستجدّات، فإنّ قراءةً لمجمل المشهد الداخلي والدولي والإقليمي تؤكّد أنّ هذا الانطباع ملتبسٌ وتعوزه الدقّة، لأنّ ترابط الملفّات على الساحتين الإقليمية والدولية أصبح أكبر من أن يستثني أيّ ملفّ من ملفّات المنطقة بما في ذلك الملفّ اللبناني، وخصوصاً أنّ جميع اللاعبين الإقليميين والدوليين على الساحة اللبنانية يجمعون ملفّاتهم حزمة واحدة ولا يمكنهم التفريط بواحد منها لحساب آخر في لحظة انتقالية على مستوى المنطقة والعالم.
الواقع أنّ حجر الزاوية لهذه اللحظة الإقليمية يتمثّل في دخول المنطقة والعالم في زمن الانتخابات الرئاسية الأميركية المقرّر إجراؤها في 5 تشرين الأول 2024. وبالتالي فإنّ جميع اللاعبين الكبار على الساحة اللبنانية بدأوا يبنون حساباتهم على هذا الأساس، من ضمن تحسين شروط مفاوضاتهم وعلاقاتهم مع الولايات المتحدة، كلّ بحسب أولويّاته ومصالحه.
دخول واشنطن مجدّداً الساحة اللبنانية من خلال طرح الترسيم البرّي بعد البحري عبر موفد الرئيس الأميركي آموس هوكستين، يزيد من أهميّة الملفّ اللبناني بالنسبة إلى هؤلاء اللاعبين الحاضرين بقوّة على الساحة اللبنانية
ربّ قائل إنّ الملفّ اللبناني يعدّ تفصيلياً أمام الملفّات الكبرى المطروحة حالياً في المنطقة والتي تقع على التقاطع الإقليمي الدولي، وفي مقدَّمها:
– أوّلاً، الدفع الأميركي باتجاه تطبيع العلاقات بين المملكة العربية السعودية وإسرائيل، في اللحظة القصوى للصعود الدولي للرياض، وهو ما يجعلها تجمع كلّ أوراق قوّتها.
– ثانياً، رسم خريطة جديدة للتفاوض / المواجهة بين واشنطن وطهران، وهو ما يجعل كلا الطرفين يجمع كلّ أوراق قوّته أيضاً.
الدخول الأميركيّ
لكنّ دخول واشنطن مجدّداً الساحة اللبنانية من خلال طرح الترسيم البرّي بعد البحري عبر موفد الرئيس الأميركي آموس هوكستين، يزيد من أهميّة الملفّ اللبناني بالنسبة إلى هؤلاء اللاعبين الحاضرين بقوّة على الساحة اللبنانية من خلال امتلاكهم أدوات عمليّة بخلاف اللاعبين الآخرين فرنسا وقطر اللذين لم تعد حركتهما في بيروت تكتسب أهمية إلّا بمقدار صلتهما بتوجّهات اللاعبين الرئيسيين الثلاثة، على الرغم من التناقضات بينهم. وربّما أدوار اللاعبين غير الرئيسيين تتمثّل في القدرة على إيجاد تقاطع بين هذه التناقضات، وهو ما لا يوجد مؤشّر إليه حتى الآن.
إذّاك تغدو مبادرة هوكستين إشارة واضحة من قبل الإدارة الديمقراطية إلى أنّها بدأت تجمع ما أمكنها من مكاسب وأوراق قوّة في إطار حملتها الانتخابية بمواجهة الحزب الجمهوري، تماماً كما حصل عشيّة الانتخابات النصفية الأميركية في الخريف الماضي عندما أصرّت إدارة بايدن، بتدخّل مباشر منه، على إتمام صفقة الترسيم البحري بين لبنان وإسرائيل قبل الانتخابات، للقول إنّ الرئيس الأميركي نجح في دمج إسرائيل أكثر في المنطقة، وفق الأدبيات الرسمية الأميركية التي أعقبت توقيع الاتفاق البحري بين لبنان وإسرائيل، ويعلم الجميع مدى تأثير هذا الأمر على الناخب الأميركي في إطار التنافس بين الحزبين الديمقراطي والجمهوري.
رسالة السفارة
اللافت في هذا الملفّ أنّ الموفد الأميركي يكاد يكرّر سيناريو الترسيم البحري نفسه، تحديداً من خلال اختياره الرئيس نبيه برّي وسيطاً بين لبنان وأميركا، عبر ما يسمّى “اتفاق الإطار”، أي أنّ تكليف رئيس المجلس بهذا الملفّ لم يحصل من ضمن أيّ آليّات لبنانية بل بموافقة أميركية واضحة. وهو ما يحيلنا، مرّة جديدة، إلى أنّ التفاوض بين بيروت وواشنطن يشمل طهران أيضاً عبر “الثنائي الشيعي” الذي يشكّل الرئيس برّي أحد ركنيه. وبالتالي دخلنا هنا في إطار المفاوضات الأميركية – الإيرانية على مستوى المنطقة لا لبنان وحسب، وهذا له حسابات خاصة لدى كلا الطرفين، واشنطن وطهران.
النقطة المركزية في مقاربة الوضع اللبناني تبقى أنّ زمن الرئاسة اللبنانية بات مربوطاً بزمن الرئاسة الأميركية
كان اتفاق تبادل الأسرى بين أميركا وإيران الأسبوع الماضي قد ذكّر بواقع أنّ العلاقات الإيرانية – الأميركية تستمرّ متأرجحة بين التصعيد والتفاوض مع التداخل بينهما لجهة سعي كلّ طرف إلى الضغط على الطرف الآخر وتحسين شروطه. والتصعيد في عزّ التفاوض سلوك إيراني تاريخي لم ولن يتبدّل، والدليل أنّ طهران ما إن حصلت على الاتفاق من واشنطن واسترجعت أموالها المحتجزة، حتى باشرت إرسال رسائل تصعيدية في المنطقة.
لذلك وضع حادث إطلاق النار على السفارة الأميركية في عوكر ضمن السياق السياسي العامّ في لبنان والمنطقة، ثمّ قراءة ملابسات إلقاء القبض على مطلق النار، يعزّزان الشكوك في أنّ هذا الحادث ليس حادثاً فردياً “معزولاً”، وخصوصاً أنّ الوقائع السياسية الحالية تمدّ اعتبار الاعتداء رسالة سياسية – أمنيّة إلى واشنطن بحجج كافية.
يدلّ استهداف الحوثيين الحدّ الجنوبي للسعودية مجدّداً وقتل ضابط وجنديّ بحرينيَّين، على الرغم من المفاوضات الجارية لحلّ الأزمة اليمنية، أيضاً على سلوك إيران التاريخي لناحية تنفيذها مزيداً من الأعمال الهجومية في لحظة تحصيلها مكاسب دولية، أيّاً يكن حجم تلك المكاسب. ويمكن هنا الربط بين الاعتداء الحوثي على الحدود السعودية وبين الاعتداء على السفارة الأميركية في عوكر، اللذين يأتيان في سياق سياسي عامّ واحد، مع الفارق في حجمهما والحيثيات الخاصة بكلّ منهما.
احتكاك مباشر
الجدير ذكره أنّ “الرسالة الناريّة” على السفارة تشكّل احتكاكاً مباشراً بين واشنطن وإيران – الحزب في لبنان، تماماً كما ملفّ الترسيم البرّي، ولذلك تدخل في الإطار العامّ لمسار المواجهة/ التفاوض بين الجانبين على امتداد المنطقة، ولا يقلّل من ذلك ما سُرّب عن توقيف مطلق النار على السفارة حتى لو أخذنا بهذه التسريبات. فأن يتمكّن شخص بمفرده من استهداف أكثر السفارات تحصيناً فمعنى ذلك أنّها في متناول الحزب ساعة يشاء، وهذا إذا ما أُضيف إلى صمت الحزب حيال الحادث، يجعل من الحادث نفسه رسالة أمنيّة لواشنطن في بيروت حتى لو سلّمنا جدلاً أن لا علاقة للحزب به.
أيّاً يكن من أمر، فإنّ النقطة المركزية في مقاربة الوضع اللبناني تبقى أنّ زمن الرئاسة اللبنانية بات مربوطاً بزمن الرئاسة الأميركية، وهذا لا يعني بالضرورة أن لا انتخاب لرئيس جديد في لبنان قبل موعد الانتخابات الأميركية، بل إنّ انتخابه قد يحصل في عزّ البازار الانتخابي الأميركي وبدفعٍ منه، خصوصاً في ظلّ الربط المحكم بين ملفّ الترسيم البرّي والملفّ الرئاسي. لكن في ظلّ اللحظة الدولية والإقليمية الراهنة، فإنّ صفقة بين واشنطن وطهران بشأن لبنان لن تكون كافية إن لم ترضِ كلّ اللاعبين المهمّين على الساحة اللبنانية، ولذلك الأزمة قد تطول وقد يضطرّ اللبنانيون إلى شدّ الأحزمة أكثر!