لم تكن احتفالية اتفاق الطائف التي أقامها سفير خادم الحرمين الشريفين في لبنان وليد بخاري في الخامس من تشرين الثاني 2022 احتفالاً سياسياً حاشداً وحسب، ككثير من المهرجانات السياسية التي اعتادها اللبنانيون، بقدر ما كانت رأس جبل الحماية الدستورية والسياسية في الاستراتيجية التي تنتهجها السعودية تجاه لبنان واللبنانيين في هذه المرحلة الدقيقة والمصيرية.
ثلاثة تحدّيات
يُجمع أهل العقد والحلّ في السياسة اللبنانية داخلياً وخارجياً على أنّ ثلاثة تحدّيات مصيرية تواجه لبنان في هذه المرحلة:
1- إعادة الاعتبار لدستور الطائف، بعد الإرهاصات والبهلوانيّات الدستورية التي مورست في عهد الرئيس السابق ميشال عون عبر السعي الدائم إلى إقرار أعراف هدّامة للدستور واتفاق الطائف من خلال التموضع في المنطقة الرمادية للنصوص تمهيداً للانقضاض عليها.
2- إعادة تكوين السلطة، بدايةً عبر انتخاب رئيس للجمهورية ثمّ تشكيل حكومة فاعلة ذات برنامج إصلاحي واضح وشفّاف، وانتهاء بإقرار قانون جديد للانتخابات يصلح ما أفسده القانون الحالي.
3- تأكيد الهويّة العربية للبنان كما ورد في مقدّمة الدستور والقضاء على محاولة سلخ لبنان عن عمقه العربي. وهي هويّة خارج الشعارات وتُعنى بالمضمون الثقافي والاجتماعي لفكرة العروبة الحديثة.
لا تقلّ تراتبية هذه التحدّيات أهميّةً عن ماهيّتها، تماماً كتراتبية أركان الوضوء لأداء الصلاة عند المسلمين، وهي شرط أساس لصحّة الوضوء، وبالتالي صحّة الصلاة. لا صلاة مقبولة من دون وضوء، ولا وضوء صحيحاً من دون تراتبية أركانه.
لم يقتصر العمل على الداخل اللبناني، بل تُوّج الجهد السعودي الذي قام به السفير بخاري في لبنان بتوفير خيمة “سدو” أخرى لحماية دستور الطائف، وهذه المرّة خيمة دولية إقليمية
إعادة تكوين السلطة في لبنان، وهي أبرز التحدّيات، لا يمكن أن تقوم إلّا عبر تحصين دستور الطائف وتوفير الحماية له داخلياً وخارجياً. هذا ما تفعله المملكة العربية السعودية، وهذا ما يجهله أو يتجاهله الكثير من اللبنانيين. لطالما نظر اللبنانيون إلى دور المملكة على أنّه الدور الداعم للبنان اقتصادياً وسياسياً عبر الودائع المصرفية لحماية الليرة اللبنانية والاستثمارات الاقتصادية والمساعدات الإنسانية ومساهمتها الكبيرة في إعادة إعمار لبنان بعد الحرب الأهلية. وتُوّج كلّ ذلك سياسياً بالمساهمة في استضافة النواب اللبنانيين في عام 1989 في مدينة الطائف حيث أُقرّ الاتفاق ليكون دستور الجمهورية اللبنانية الثانية.
السعوديّة مدماك حماية الدستور اللبنانيّ
في هذه المرحلة المصيرية من تاريخ لبنان وضعت قيادة المملكة العربية السعودية استراتيجية حماية لبنان عبر حماية دستور الطائف مجنّدَين كلّ الإمكانيات السعودية الدولية والإقليمية لتحقيق هذه الاستراتيجية من أجل ضمان كينونة الدولة اللبنانية ومؤسّساتها، والعيش المشترك بين كلّ المكوّنات اللبنانية. هذا الجهد كان واضحاً للجميع في كلّ المناسبات الدوليّة والأممية والإقليمية، فكان لبنان وضرورة الحفاظ على دستوره وسيادته بنداً أساساً في كلّ قمّة ثنائية أو غير ثنائية شاركت فيها السعوديّة بأيّ مستوى من المستويات حتى يخال المتابع أنّ وزير خارجية المملكة الأمير فيصل بن فرحان بمنزلة وزير لحماية دستور لبنان في لقاءاته وإطلالاته الإعلامية في أهمّ وسائل الإعلام الدولية. بحيث أصبحت المملكة مدماكاً أساساً في حماية الدستور ووثيقة الوفاق الوطني التي أُقرّت في الطائف.
وفقاً لهذه التوجّهات خاض السفير وليد بخاري في الداخل اللبناني معركة حماية دستور الطائف منفِّذاً استراتيجية بلاده تجاه لبنان بكلّ حكمة واحتراف منذ تعيينه سفيراً في آذار 2018، وهو “معالي” الوزير المفوّض في الخارجية السعودية، ومعتمداً في عمله منطق “السدو” لتحصين اتفاق الطائف وتوفير الحماية له.
السدو هو القماش الذي تُصنع منه الخيمة العربية ويحمي القبائل العربية في ترحالها لأنّه الأنسب لطريقة حياة سكّان منطقة الجزيرة التي لم تكن تعرف الاستقرار في مكان واحد، ويُصنع من شعر الماعز الذي يُخلط بصوف الضأن، لأنّه يتماسك عند نزول المطر عليه، بينما يكسبه خلطه بالصوف قوّة تجعله يقاوم حرارة الشمس والرياح والرمال.
وضعت قيادة المملكة العربية السعودية استراتيجية حماية لبنان عبر حماية دستور الطائف مجنّدَين كلّ الإمكانيات السعودية الدولية والإقليمية لتحقيق هذه الاستراتيجية
ولأنّ غطاء “السدو” يُحاك بشكل أفقي عمل السفير بخاري على حماية الدستور والطائف بدبلوماسية هادئة عبر سلسلة من الخطوات الأفقية التي تتكامل باتجاه الهدف المحدّد:
1- مواجهة كلّ الافتراءات والاعتداءات بحزم وعزم وشدّة، تارة عبر تغريدات كانت تشغل وتملأ اهتمامات وفضاءات اللبنانيين كافّة عند كلّ استحقاق ومفترق، وتارة أخرى بمواقف حازمة لا تحتمل اللبس والتهاون.
2- تصويب المجال العامّ نحو حقيقة موقف المملكة من لبنان ومساعدة اللبنانيين على صناعة منهجية التفكير وصناعة القرار الوطني، عبر سلسلة من اللقاءات مع النخب اللبنانية من شتّى المناطق والطوائف والأحزاب والتيارات تحت مسمّى مبادرة “جسور”، فكانت تلك اللقاءات بمنزلة ورش عصف ذهني للنخب اللبنانية مع السفير المثقّف.
3- إقامة احتفالية اتفاق الطائف في قصر الأونيسكو ببيروت في 5 تشرين الثاني 2022 مع ما تحمله هذه الاحتفالية من رمزية المكان والمضمون ونوعية الحضور. فهي انعقدت في قصر الأونيسكو، قصر الثقافة اللبنانية والمقرّ المؤقّت للمجلس النيابي في حينه، وسط حشد سياسي وروحي وأكاديمي ونخبوي لبناني من كلّ الأطياف، من مفتي الجمهورية عبد اللطيف دريان ووليد جنبلاط الزعيم الجبليّ وصولاً إلى سليمان فرنجية. جاؤوا جميعهم ليؤكّدوا تمسّكهم بدستور الطائف.
لم يقتصر العمل على الداخل اللبناني، بل تُوّج الجهد السعودي الذي قام به السفير بخاري في لبنان بتوفير خيمة “سدو” أخرى لحماية دستور الطائف، وهذه المرّة خيمة دولية إقليمية، فكان البيان الثلاثي في نيويورك (الأميركي الفرنسي السعودي)، ثمّ القمّة الخليجية في الرياض، وأخيراً بيان اللجنة الخماسية في الدوحة، وهي كلّها جاءت لتؤكّد مرجعية الطائف كحلٍّ للأزمات العاصفة في لبنان.
المرشّح الدائم للسعوديّة
لكلّ هذه الأسباب تسقط كلّ التساؤلات غير المبرّرة من مثل: أين المملكة من لبنان؟ هل تخلّت المملكة عن لبنان واللبنانيين؟ لقد أدركت المملكة وقيادتها أنّ منطق البشرية يقول إنّه لا يصحّ إلّا الصحيح، فعملت على حماية الصحيح، أي اتفاق الطائف، مدركةً أنّ الجميع في النهاية لا بدّ أن يعود إليه، فحَمته في الأيام الصعبة ليبقى سليماً معافى فيُطبّق عند وصول لبنان إلى شاطئ الأمان. لهذه الأسباب لم تدخل المملكة بازار الأسماء المرشّحة لرئاسة الجمهورية ولا بازار بورصة المتنطّحين لرئاسة الحكومة، بل كان مرشّحها في كلّ الاستحقاقات والمواقع الطائف والدستور وبرنامج الإصلاح.