تعتمد الجمهورية الفرنسية الخامسة على نوعية الأغلبية التشريعية الممثّلة للشعب في الجمعية الوطنية، التي تنعكس مباشرة على علاقة البرلمان برئيس الجمهورية عبر إظهارها قوّته وسطوته على مؤسّسات الدولة. وهو ما فقده الرئيس إيمانويل ماكرون في ولايته الثانية.
لقد رغب الرئيس الأسبق شارل ديغول بجمهورية فرنسية خامسة “على قياسه”. سعى حينها إلى تأسيسها مع عدم وجود قوّة كبيرة للأحزاب في السلطة التنفيذية. وترك للحكومة كلّ الحق في ممارسة صلاحيّتها التشريعية والرقابية تحت قبّة المجلس النيابي.
أراد ديغول علاقةً مباشرةً بين الجمهورية والشعب، من خلال صلة تجمع بين الشخص ومن ينتخبه رئيساً. حاول الرئيس ماكرون تطبيق ذلك. وما يزال يحاول إلى الآن من خلال اعتماده على النظرة الديغولية حيناً والممارسة النابليونيّة حيناً آخر. نلمس بوضوح فشل تلك المعادلة، لأنّ الرئيس ماكرون يعلم جيّداً واقعيّة نظريّة تغيّر الزمان وتبدّل الظروف. لذا فإنّ استمرار الجمهورية الخامسة على هذا المنوال غير ممكن. وإنّ احتمالية توجُّه فرنسا نحو نظام جديد على غرار النموذج الإنكليزي البرلماني، أو حتى الرئاسي الأميركي، أمر متاح جدّاً.
توتّر الجمهوريّة الفرنسيّة مدخل لتطوير النظام اللبنانيّ
ما زالت الجمهورية الخامسة على الرغم من كلّ الظروف قادرةً على التأقلم مع هذا التغيير والضغط. لكنّ فرنسا تدرك أيضاً في الوقت نفسه حجم التغيير في المزاج السياسي والتحوُّل الديناميكي المجتمعي. طرأ تحوُّل عميق في متن بنيتها وهيكلها ونطاقها. لذلك يتجدّد هذا الجدل الضوضائي تماماً كما في لبنان، ويلامس بطريقة أو بأخرى الهويّة الفرنسية. أصبحت إشكالية الهويّة الفرنسية المحرّك الثابت والمقنع في الجمهورية الخامسة والمتقدّم على شعاراتها، فأضحت المادّة الدسمة والأساسية المتحكّمة بكلّ الاستحقاقات الدستورية والمحطات السياسية المصيرية والانتخابات الدورية.
تحوّلت الجمهورية الفرنسية الخامسة إلى كيان متوتّر. فليست فرنسا الآن ما كانت عليه في عام 1958. تقلق بشدّة من نفسها على ذاتها، ومن أوروبيّتها على فرنسيّتها. أضحت دولة علمانية، متخبّطة في مساحة الممارسات السياسية وعشوائية استعمال الحرّية. أصابها قصور التجدّد التنويري، والتراجع التقدّمي. أضحت تطبّق الديمقراطية الشعبوية بطريقة شخصانية ونفعية. لكنّ فرنسا من البلدان العريقة الملتزمة بمسؤولية اتجاه شعبها ومؤسّساتها ورعاياها. لذا يُعتبر التغيير أمراً صعباً ومكلفاً أحياناً، لكنّه ممكن وحتميّ وأمر لا مفرّ منه لحماية الدولة واستمراريّتها.
تعتمد الجمهورية الفرنسية الخامسة على نوعية الأغلبية التشريعية الممثّلة للشعب في الجمعية الوطنية، التي تنعكس مباشرة على علاقة البرلمان برئيس الجمهورية عبر إظهارها قوّته وسطوته على مؤسّسات الدولة
تعدُّد الجمهوريّات الفرنسيّة وإشكاليّة الأزمة اللبنانيّة
تتعدّد الجمهوريات في فرنسا وتبقى الدولة. وقد ارتبطت تاريخياً ولادة الجمهوريات الفرنسية وولادة الأنظمة السياسية الجديدة فيها، وتزامنت، مع بروز العديد من المشاكل الاجتماعية والهزّات الاقتصادية والتمرّدات السياسية. وقابلها حتماً عجز المؤسّسات السياسية، سواء الرئاسية أو التشريعية، عن ضبط النظام وتحقيق رغبات وحقوق المواطنين.
يحتّم هذا الواقع ظهور عدّة سيناريوهات وخيارات تدور حول إمكانية ولادة نموذج دستوري وتعديل سياسي جوهري جديد.
تفتح مساحة الأحداث الفرنسية إشكالية كبيرة تتعلّق بطبيعة التعامل مع الحالة اللبنانية وقضية استمرارية الدولة فيها. يشبه لبنان فرنسا في أمور عديدة، فهو يتقمّص تقريباً دستور جمهوريّتها الثالثة. لكنّه مختلف عنها في نواحٍ متنوّعة، أبرزها عدم التزام لبنان المسؤولية اتجاه شعبه ومواطنيه وتحايل جماعة السلطة فيه على الدولة، إضافة إلى قصور لبنان في علاج نفسه وإنتاج سلطته وتطوير دولته وتطبيق دستوره.
لذلك فإنّ سؤال الرئيس الأسبق فرانسوا هولاند: “وماذا عنكم في لبنان؟ ماذا تريدون؟”، الذي سألني إيّاه وأنا أناقشه في 2019 حول الجمهورية الفرنسية الخامسة، أو السادسة، يفتح الباب على مواضيع مهمّة في لبنان تتّصل بشكل الدولة وماهية النظام السياسي وطبيعة النموذج الإداري والمؤسّساتي، إضافة إلى الشراكة والمناصفة.
يبقى الموضوع الأهمّ هو كيفية تكريس اتفاق الطائف، وضرورة تطبيقه قبل التفكير في أمر آخر، خصوصاً مع ظهور مواقف وتصريحات متعدّدة تطالب بالتعديل والتطوير والتغيير في شكل الدولة وصيغتها. يبقى الأهمّ هو تمايز وتأييد دولة رئيس المجلس النيابي اتفاق الطائف، لكنّ أيّ طائف يقصد الرئيس برّي؟
وللكلام تتمّة.