في روسيا اليوم يئنّ فلاديمير بوتين تحت وطأة تآكل هيبته من “ميليشيات فاغنر” التي صنعها لتقتل وتقاتل حيث “مصالح روسيا”. الميليشيا أُنشئت في الأساس من ضمن صناعة الرئيس الروسي بوصفه “قويّاً” قادراً على صناعة عالم متعدّد الأقطاب. في لحظة سياسية حرجة على روسيا والعالم كلّه جرّاء الحرب على أوكرانيا، بدا أنّ بوتين قد لا يستطيع أن يحكم، ولا أن يُسقط سيف قائد “فاغنر” يفغيني بريغوجين المسلّط على الحكم والجيش وحتى على الدولة.
داوم بوتين تبعاً للطريقة السوفيتية على الضخّ في إعلام بلاده مصطلح “صانع روسيا الجديدة”. وبدا أنّه استعار من النظام السوري حليفه ونصيره عبارة “باني قوّة روسيا على الساحة الدولية”. الرجل الآتي من جهاز المخابرات السوفيتية “كي جي بي” ضخّ على الدوام وهم “عودة روسيا” إلى الساحة الدولية، التي تعيد معها التوازن العالمي إلى نصابه. هذا الزعم أسقطته المحن التي دفع بلاده إلى خوضها من الشيشان إلى أبخازيا ثمّ أوسيتيا فجورجيا.
ما لبثت روسيا المُتحلّلة بعد انهيار الاتحاد السوفيتي أن اندفعت فضمّت شبه جزيرة القرم عام 2014، ثمّ انتقلت لاحقاً للقتال في سوريا وليبيا، قبل مغامرة الحرب على أوكرانيا. كلّ هذا خاضه بوتين تحت شعار “وجوب” اعتراف العالم بامتيازات لروسيا التي قال إنّه استعاد هيبتها ومعها توازن العالم. لقد بدا على الدوام أنّه “ضعيف” في السياسة، لذا يندفع في اتجاهات حربيّة.
أفكار بوتين إذ تقترب من العالمثالثيّة
يناطح بوتين الغرب بالحروب المتنقّلة. يستعيد في خطاباته شيئاً من شيوعية عاشها لكن من دون أن يسمّيها، وذلك في معرض حديثه عن “تأزّم الولايات المتحدة والدول الأوروبية”، على الرغم من أنّ اقتصاد بلاده قائم على متغيّرات الأسواق النفطية. الأسوأ عندما يتحدّث عن أزمات في الديمقراطيات البرلمانية الغربية، وهو الذي لا يحتمل منافساً جدّياً له في الانتخابات. أعماله كلّها، ومعها خطاباته، تنمّ عمّا يسمّيه قاموس علم النفس “عدوانية سلبية” الأكيد أنّه لن يستطيع معها أن يهزم الغرب.
يتعاطى الرجل الآتي من الاستخبارات السوفيتية مع حياته الشخصية وكأنّها جهاز أمنيّ ممنوع أن يتسرّب عنه أيّ شيء
انهماكه في مقارعة الغرب وجعلها مهمّته الوحيدة لإعادة تصدير الإمبراطورية الروسية، يكادان يشبهان شرطيّ سير على الأرض يحاول أن ينظّم مسارات الطائرات في السماء. عقله القومي والديني يُلزمه أكثر من “مسيحانيّة” دونالد ترامب في الولايات المتحدة. في المهمّة التي يمضي فيها يظهر الرجل زعيماً من جمهوريات العالم الثالث التي اشتغلت طويلاً على سحر الشيوعية والاشتراكية.
تُظهر أطروحاته جهلاً بأنّ حلف وارسو صار من التاريخ بينما حلف الناتو يتجدّد ويوسّع أنشطته في كلّ العالم. يعمل الغرب بطريقة مختلفة تماماً. وبمعزل عن الدعاية الشيوعية بأنّ الرأسمالية تعالج أزماتها بالحروب، فقد أظهر بوتين ومَن يشبهه في العالم، وخصوصاً في العالم الثالث، أنّ الدول إذا لم تمتلك جاذبية فلا حياة لها.
المقدَّس مع المدنَّس
استنفر فلاديمير بوتين في هذه الأدوار الحربية كلّها المشاعر القومية والدينية الأرثوذكسية. هل مَن لا يزال يتذكّر أنّه أرسل بطريرك بلاده ليرشّ طائرة حربية بـ “ماء مقدّس” قبيل توجّهها إلى الإغارة على سوريا ومناطق المعارضة بمن فيها من مدنيين وعسكريين؟ آنذاك عرف الروس ذروة الشعور الديني الذي تلا تنامي المشاعر القومية. نجح باستمرار في دمج المدنّس (السياسي) مع المقدّس (الديني).
لم يكن من مبرّر لحروبه جرّاء تهافت الحجّة وضعفها. أنهك الروس بشيء من العالمثالثيّة عن “الوطني” و”العميل”. هما مفردتان لا قيمة لهما في عالم سياسي شديد التعقيد. دعك من مفاعيلهما أمام القضاء. الكلام في السياسة الروسيّة البوتينيّة وعنها. كان يستعمل هاتين المفردتين لإعطاب النقاش عن تطوير النظام السياسي الذي جعل منه رئيساً على الدوام حتى لو تراجع بعد ولايتين إلى رئاسة الحكومة. دائماً كان يمحو آثار حرب بأخرى أشدّ عنفاً.
بدا على شيء من الغرابة وخلافاً لكلّ تداخل العالم عندما أصدر قانوناً يحظر المشاركة في المنظمات غير الحكومية الأجنبية والدولية في روسيا، وقانون “ديما ياكوفليف” الذي يحظر تبنّي الأطفال الروس من قبل المواطنين الأميركيين، وأحياناً عندما يمتنع عن إصدار بعض القوانين والتشريعات، كما كان موقفه إزاء المطالبة بتشريع زواج المثليين، وهو الذي جعلت منه الكنيسة “الرجل المؤتمن” على الأرثوذكسية. نهض على دعم الكنيسة في محاربته الغرب المادّي المتفلّت بذرائع “الحرّيات” والديمقراطية” و”حقوق الإنسان”.
يبدو بوتين كثيراً أناركيّاً. يتصرّف كما فعل الفوضويون وفكّروا، إذ اعتبروا أنّ العمل المباشر هو الدعاية، وأنّ الممارسة تسبق الفكرة وتعلوها. الفوضويون هؤلاء صاروا في عالم الفوضويين.
في الأمن كما في العيش
يتعاطى الرجل الآتي من الاستخبارات السوفيتية مع حياته الشخصية وكأنّها جهاز أمنيّ ممنوع أن يتسرّب عنه أيّ شيء. يحمي ابنتيه من تداعيات حياته العامّة، ويُخضع خصوصيّتهما لحراسة مشدّدة. في أحد المؤتمرات الصحافية قبل 11 عاماً، سُئل هل لديه أحفاد فأجاب بالقول إنّ “البلاد ليست بحاجة إلى معرفة ذلك”. لكنّ بوتين كان أقلّ تحفّظاً في حواراته مع أوليفر ستون في حزيران من عام 2017، إذ تحدّث عن ابنتيه وقال إنّ لديه حفيدين.
بدأ بوتين دراسته بالقرب من منزله. في عام 1970، انتسب إلى قسم العلاقات الدولية بكلّية الحقوق في جامعة “أندريه غدانوف” في ولاية لينينغراد، وتخرّج في عام 1975. في تلك الفترة انتسب إلى الحزب الشيوعي السوفيتي، وظلّ فيه حتى تفكّك الاتحاد السوفيتي في عام 1991.
حين كان تلميذاً علّق بوتين في غرفته صورة يان بيرزين، وهو أحد مؤسّسي المخابرات العسكرية السوفيتية. بعدما أصبح رئيساً للبلاد، قال بوتين في إحدى المقابلات إنّه كان مولعاً منذ الطفولة بالأفلام السوفيتية عن ضبّاط المخابرات، وكان يحلم بالعمل في وكالات أمن الدولة. وتمكّن بوتين من تحقيق الأهداف التي حدّدها لنفسه بالكامل. ففي عام 1984، درس لمدّة عام واحد في معهد Red Bannerالتابع للكي جي بي، وتخرّج في عام 1985 من قسم الاستخبارات الأجنبية. خلال هذه السنة حمل لقب بلاتوف، نظراً لسرّية العمل، فلم يكن من المفترض أن يعرف المنتسبون أسماء بعضهم الحقيقية، وكانت السلطة المعنيّة تختار الأسماء المستعارة.
بعد تخرّجه من جامعة لينينغراد، تمّ إرساله للعمل في لجنة أمن الدولة في اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفيتية: عمل في الأمانة، ثمّ في وحدة مكافحة التجسّس التابعة لمديرية الكي جي بي بمنطقة لينينغراد. بعد الدراسة في موسكو، انتقل إلى فرع الاستخبارات الأجنبية، حيث أُرسل عام 1985 إلى مكتب الكي جي بي في جمهورية ألمانيا الشرقية، حيث عمل في مدينة “دريسدن”، وفي عام 1990 ترك ألمانيا بعد سقوط جدار برلين عائداً إلى بلاده.
أصبح فلاديمير بوتين رئيساً لروسيا بالإنابة في كانون الأول من سنة 1999 بسبب الاستقالة المبكرة لبوريس يلتسين. وفي 26 من آذار عام 2000، انتُخب بوتين رئيساً للبلاد، بنسبة 52.94% من الأصوات.
أظهر بوتين قدرة استثنائية في التأثير في انتخابات الدول الغربية. برز هذا الحديث مع فوز دونالد ترامب. وكان مثله في فرنسا وبعض الدول الأوروبية. يشتري قوى ويغتال أفراداً بالأسلحة والغازات البيولوجية. وكُشف تجسّس أجهزته الأمنية على كبريات الشركات والمؤسّسات.