لم يتركوا تهمة أو صورة سيئة إلّا وألصقوها بهم.
بعضهم ركّز على مشاركة المثليين والمتحولين في الحراك. وراح يذكرهم بموقف “الشريعة” منهم.
بعض آخر صوّرهم مجرد “حاقدين على أنفسهم” ( Self – Hated) وبالتالي بضعة عدميين أناركيين فوضويين…
بعض ثالث أظهرهم شاباتٍ وشباناً يهتفون بأعلى ما في حناجرهم، من أجل “فلسطين حرة حرة من البحر إلى النهر”… فيما لا يعرفون أي بحر وأي نهر يقصدون…
فهل لهذه المشاهد المجتزأة والمحور بعضها، أن تختصر ثورة طلّاب أميركا دعماً لفلسطين؟
طبعاً لا. فهناك في تلك الظاهرة ما هو أعمق دلالة ومعنى وتأشيراً إلى ما حصل وقد يحصل. إنه تغيير يتخطى اسرائيل وفلسطين. إنه عالم جديد.
لكّل حراك شارعي، في أيّ شارع كان، عدّة مكوّنات متراكمة: هناك الهامشيّون. وهناك “المؤامراتيّون”. وهناك خلفهم أو أمامهم أو إلى جانبهم، الجديّون، أصحاب المنطلق والخلفيّة والهدف والرسالة.
الهامشيّون يظهرون دائماً سريعاً بل فوراً. يحبّون الكاميرا وهي تحبّهم. موجودون هم في إطارها طوال الوقت. هم أصلاً في الشارع. كأنّ الحدث يحصل في بيتهم. لا يحتاجون إلى أيّ جهد أو انتقال ليكونوا في قلبه.
هم المشرّدون وبعض غريبي الأطوار وأصحاب الصيحات المجنونة … هم من أقصاهم “النظام” وتركهم على قارعته. يهبّون حين يأتي الحدث إليهم عند تلك القارعة بالذات. ليثأروا لتهميشهم وبؤسهم.
كما في الشرق كذلك في الغرب
رأينا بعض نماذجهم في 17 تشرين في بيروت.
والأمر نفسه رأيناه في أميركا. مضروبٌ بأضعاف نسب السكّان والأطوار الغريبة، في مجتمعٍ دستوره أنْ “تعالَ كما أنت”. حيث لا ضوابط ولا موانع ولا كوابح ولا أحكام…
لكنّ
هؤلاء لا يمثلّون ثورة طلّاب أميركا لأجل فلسطين. على الرغم من اهتمام الإعلام بهم في البداية. يتسلّى بهم ويُسلّي.
قبل أن ينتقل إلى اكتشاف “المؤمراتييّن”. أو المكوّن الثاني الذي تحاول “السلطة” التركيز عليه لضرب جوهر الحراك ضدها.
بعد 7 أكتوبر (تشرين الأول)، وقبل أن يتحرّك الطلاب، أعلنت الاتّحادات العمّالية الأميركية موقفاً واضحاً يطالب بوقف فوري للنّار في غزّة.
ولم يتأخّر إعلام الدولة الأميركية العميقة في تلك المهمّة. بعد أيام قليلة على تمدّد الثوار في أكثر من 50 جامعة أميركية، تمّ “اكتشاف المؤامرة” و”المتآمرين”!
برنامج “هذا الأسبوع” على شبكة ABC، كان سبّاقاً في الإنجاز، وفي تقديم سرديّة طويلة، هذا بعض أحاجيها:
حراك الطلاب تقف خلفه جهات مموِّلة ومنظّمة. أبرزها جهة شبه سريّة اسمها WESPAC.
أول ما يلفت في الاسم، صعوبة البحث عنه في محرّكات الشبكة العاديّة. ما يوحي فوراً بأمر شبه محظور.
جمعية يسارية مقرّها نيويورك منذ 1974. تعمل على تحقيق “التغيير الاجتماعي التقدّمي”!
وهي تموّل – بمن تموّل – حركة “طلاب لأجل عدالة فلسطين”، التي لها نحو 200 فرع في جامعات أميركا. بينها جامعات القمّة أو “رابطة اللبلاب”. وهي التسمية الآتية من تلك النبتة التي تكسو الجدران العتيقة للأحرام الجامعية العريقة، التي تحتضن تلك الجامعات الكبرى.
تمويلٌ بملايين الدولارات. من أين مصدرها؟ من الدولة الأميركية نفسها. ومن الجامعات التي تتعاقد مع تلك المنظّمات لأغراض استشارية أو مهمّات أكاديمية. وحتى من مؤسّستي سوروس وروكفلر!
نعم المؤسّستان اللتان اتّهمتهما أصوات الممانعة في لبنان، بأنّهما موّلتا حراك 17 تشرين، لصالح إسرائيل والسفارات، تبيَّن أنّهما مشاركتان في تمويل الحراك الطلابي الأميركي ضد إسرائيل ولصالح فلسطين!
لعبة شيطنة الآخر
إنّها لعبة “شيطنة” الآخر من قبل النظام أو السلطة. أيّ نظام وأيّ سلطة. بالأساليب نفسها والأدوات ذاتها وحتى نفس اللغة والقاموس…
تتوالى سرديّات إعلام النظام عن “المؤامرتيّين”. تماماً كما في بيروت 2019 وفي القاهرة 2011. الآن في واشنطن أيضاً:
تخرج شبكات التلفزة والصحافة العميقة فجأة بصورة وسؤال: من هو محمود خليل؟ طالب فلسطيني وصل إلى أميركا قبل أشهر قليلة فقط. مسجّل بواسطة فيزا طالب، في جامعة يبلغ قسطها السنوي نحو 90 ألف دولار. فجأة تقدّمه شبكة CNN على أنّه الناطق باسم الحراك الطلابي. ويتبيّن أنّه يتكلّم الإنكليزية بطلاقة ولَكنة نيويوركيّة قُحّة…
في أميركا هناك من يقول للكيان الصهيوني: كفى يعني كفى!
نماذج وأمثلة لا تنتهي. في محاولة لإقناع الناس بأنّ ما يحصل هو نتاج مؤامرةٍ خبيثة تنفذّها جهات خارجية.
لم يكن ينقص تلك “المؤامرة” إلا غوغائية تنظيمات الإسلام السياسي وطلاّبهم، لتصرخ “فوكس نيوز”: هذا هو الدليل القاطع والكافي!
ففيما الطلاب المنتفضون يصدحون بهتافات الحريّة لفلسطين وسقوط آخر نظام فصلٍ عنصري في إسرائيل، فجأة يأتي الطلاّب الإسلامويون، بسحناتهم ولباسهم ورايات المنظّمات المصنّفة إرهابية في أميركا. يفترشون الأرض مقيمين صلوات “أرض الجهاد والحرب”، ممزّقين العلم الأميركي، ومطلقين هتافات “خيبر خيبر يا يهود”…
أحد الطلاب العرب المشاركين في الحراك، أعلن قبل أيام في فيديو وزّعه من حرم جامعة كولومبيا، ريبته الشديدة من تلك الظاهرة المقلقة.
قال إنّ الأمر إمّا لعبة خبيثة لضرب الحراك. أو هو غباء الإسلامويّين ورعونتهم. “لقد قضوا على ثورة سوريا قبل عقد. وها هم يقضون على حراك فلسطين في أميركا الآن”!
يحبُ الإعلام السلطوي هاتين الفئتين من الحراكيّين. يركّز عليهما. ففي ذلك خدمة لأغراضه. أو هو السبب ربّما انحرافٌ مهني إعلامي، على طريقة أنّ الخبر المهم والمثير “أن رجلاً عضّ كلباً لا العكس”.
الفئة الوازنة
لكن خلف هؤلاء تظلّ هناك فئة وازنة رصينة وجدّية هي في قلب الحراك.
هي فئة الذين أطلقوه بصمت، قبل أن يلتحق به الآخرون. فئة أصحاب الطرح والفكر والقضيّة والرسالة.
هؤلاء هم من لم يُكتب عنهم، ولم يُذكر عملهم التراكميّ التأسيسيّ الأوّل.
قبل أكثر من ثلاث سنوات، أصدرت منظمة “هيومان رايتس واتش” تقريرها الذي وصفت فيه سلوك إسرائيل بأنّه “فصل عنصري”
على طريقة “أبارتهايد” جنوب أفريقيا. هي منظّمة غالباً ما يتّهمها طغاة العالم الثالث بأنّها دمية أميركية!
فإذا بكلامها الموثّق بأسانيد القانون الدولي، يشكّل أكبر فتحٍ لإدانة إسرائيل في قلب الغرب.
بعد 7 أكتوبر (تشرين الأول)، وقبل أن يتحرّك الطلاب، أعلنت الاتّحادات العمّالية الأميركية موقفاً واضحاً يطالب بوقف فوري للنّار في غزّة.
هؤلاء لا يمثلّون ثورة طلّاب أميركا لأجل فلسطين. على الرغم من اهتمام الإعلام بهم في البداية. يتسلّى بهم ويُسلّي
بعد العمّال، دعت اتّحادات المعلّمين في المدارس الأميركية، إلى تضمين المناهج التربوية فصلاً عن “احتلال إسرائيل العسكري وغير الشرعي للأراضي الفسطينية”. فيما كانت كبريات الكنائس الأميركية تطالب بوقف الدعم الماليّ والتسليحيّ لإسرائيل.
وهو ما تُرجم عملياً عبر رعايا تلك الكنائس في الهيئات المحليّة المنتخبة، بإقرار أكثر من مئة هيئة أميركية منتخبة، توصياتٍ تدعو إسرائيل إلى وقف فوريّ للنّار. بينها مدن كبرى مثل شيكاغو وسان فرانسيسكو وأتلانتا.
بينما كانت مختلف دوائر الحكومة الفدرالية، تضجّ يومياً بمدوّنات داخلية شديدة الانتقاد لإسرائيل ولتساهل أميركا معها. فضلاً عن الاستقالات احتجاجاً. وصولاً إلى صدمة إحراق آرون بوشنيل نفسه استنكاراً لارتكابات إسرائيل وصمت الإدارة الأميركية حيالها.
بوشنيل، الجنديّ الأميركي السابق، ابن “جماعة يسوع المسيحية” في مسقط رأسه أورليانز ماساتشوستس، الذي مات لأجل فلسطين، فيما الإسلامويون يتجادلون حول صحّة وصفه بشهيد فلسطين، وهو “الكافر المُشرِك”!
لا تنتهي أمثلة ما سبقَ انفجار ثورة الطلاب. سلسلة مديدة خلاصتها أنّ هناك، “في أرض الأحلام والأحرار”، من بات يُحس ويشعر ويعيش ويصرخ ما معناه: طفح الكيل من إسرائيل. طفح الكيل من قمعها للفكر والرأي والتعبير والسلوك، في أكبر ديمقراطية على وجه الأرض. طفح الكيل من هذا “الشيء” الذي احتل طيلة عقود، موقع المرجعية الأخلاقية والفكرية والسياسية، لكل فكرة في بالنا أو كلمة على لساننا أو خطوة من أفعالنا وإرادتنا.
في أميركا هناك من يقول للكيان الصهيوني: كفى يعني كفى!
وهذا هو الأساس الذي يمكن البناء عليه. لا لفلسطين وحدها. بل لعالم أكثر عدالة وحريّة وخيراً وحقاً.
تماماً كما تقول أدبيّات أميركا، “روما الجديدة”، المدينة التي على جبلٍ، ليراها العالم كلّه، ويرى قيمها منارةً ونموذجاً ومثالاً.
ثمّة شعارٌ شهيرٌ تردّده ثقافة أميركا الشعبية كل لحظة.
اليوم، وبفضل طلابها، استحقت أن نكرره لها: “بارك الله أميركا”! God Bless America!