قد تتحمّس السعودية لتسوية ما في ظل الحوار السعودي – الإيراني. لكن التسوية والحوار لا يلزمان الغرب عموماً، وخصوصاً الولايات المتحدة التي قد لا تتقاطع مصلحتها مع مصلحة السعودية هذه المرة، ما يؤشر إلى أيام صعبة تنتظر «الشركاء» المفترضين للرياض في لبنان، عندما يوضعون أمام اختبار الاختيار بين السعودية والولايات المتحدة: بين من يدفع مباشرة، ومن يوعز له بأن يدفع!
بعد أيام قليلة على إعلان الرياض وطهران، من بكين، اتفاقهما على ترميم العلاقات بينهما، استفاق عضوان، ديمقراطي وجمهوري، في مجلس الشيوخ الأميركي على مطالبة الإدارة الأميركية بإعداد تقرير مفصل عن سجلّ حقوق الإنسان في السعودية، لإعادة تقييم المساعدة الأمنية الأميركية للمملكة. وهذه ورقة ضغط يستذكرها الكونغرس كلما أراد ابتزاز السعودية
وفي بيروت، كان عاملون في الجهاز الديبلوماسي الضخم في السفارة الأميركية يقلّلون في جلسات مع أصدقاء لبنانيين في مطاعم قريبة من عوكر، من شأن أي اتفاق لا يُنسّق في كل تفصيل فيه مع واشنطن، مؤكدين أن الأميركيين لا يمكن أن يفقدوا السيطرة على السعوديين، ولا يمكن – إذا ما حدث ذلك – أن يسمحوا للرياض بالمضي في تسوية من دونهم، وأن أفضل ما يمكن للإيرانيين – ومن خلفهم الصينيون – حصده هو تحييد السعوديين، من دون إحراز تقدم في أي ملف.
ويذكّر مصدر ديبلوماسي أميركي، في هذا السياق، بتجربة التواصل والتنسيق الإيراني – السعودي في اليمن، والتي أثبتت فشلها مراراً في الشهور الستة الماضية في غياب المباركة الأميركية. هذا الأمر يعرفه الإيرانيون جيداً وسيتواصل، إلا إذا كانت السعودية مستعدة للقفز فوق القوانين الأميركية التي أزالت الحوثيين من قوائم المنظمات الإرهابية، لكنها أبقت على قيود مالية وإدارية وأمنية كثيرة لا يمكن للرياض القفز فوقها. فواشنطن لا تنظر إلى «أنصار الله» بوصفهم تهديداً للسعودية بقدر ما هم تهديد لإسرائيل وللممرات البحرية.
عليه، قد تخفّف المصالحة الإيرانية – السعودية التوتر وتفتح الباب أمام حلول ممكنة. لكن الأميركيين لن يسمحوا بتحويلها إلى فرصة إيرانية – صينية لتجاوزهم، في اليمن أو العراق أو سوريا أو لبنان. ويشير موظف في السفارة الأميركية في بيروت إلى أن بلاده تأتمن السعوديين على بعض مصالحها في المنطقة، ما يعني أنه لا يمكنهم تعريض هذه المصالح للخطر (بموجب تسوية أو تفاهم)، من دون أن يتوقّعوا استنفاراً أميركيّاً للحؤول دون ذلك. فقرار «إراحة حزب الله» في لبنان بات «يتعلق بالأمن القومي الأميركي، ولن يترك الأميركيون للسعوديين البت فيه». والأمر نفسه ينطبق على «رفع الحصار الاقتصادي أو التخفيف من تداعياته».
يحرص الديبلوماسيون الغربيون، في سياق قراءة الاتفاق الإيراني السعودي، على انتقاء مفرداتهم بحذر شديد. إلا أن خلاصة ما يقولونه هو أن السعودية أداة في مشروع، ويمكن للأداة أن تتوقف عن العمل من دون أن يغير ذلك في طبيعة المشروع الذي يمكنه استبدال الأداة بأخرى، ما لم يكن صاحب المشروع موافقاً على التسوية، وهو ما يضعف الموقف السعودي بطبيعة الحال في المفاوضات مع الإيرانيين أو غيرهم.
ما ينشره صحافيون «أصدقاء» للسفارة الأميركية في بيروت يشير إلى كلمة سرّ وزعت عليهم بأن مقاربة الرياض لأي ملف من دون تنسيق مباشر مع واشنطن سيكشف نفوذها الحقيقي في لبنان عندما يُخيّر أصدقاء السعوديين، من سمير جعجع مروراً بوليد جنبلاط إلى النواب «التغييريين» وغيرهم، بين الأميركي والسعودي، مع تشديد واضح لـ «أصدقاء» السفارة، على ما يبدو، بوجوب التذكير أن قرار «تأمين الغطاء الدولي للبنان وحكومته وقواه الأمنية وما تبقى من قطاعه المصرفي»، والاتفاق مع صندوق النقد الدولي، وملف التنقيب والاستخراج من البلوك رقم 9، واستجرار الطاقة… كلها عند الأميركيّ لا السعودي.
بالتوازي مع التسريبات «الديبلوماسية» الأميركية، يُسجّل على الخط نفسه استنفار ديبلوماسي بريطاني مشابه لتعطيل المصالحة. مدير مكتب الشرق الأوسط في الخارجية البريطانية نقل عن وزير الخارجية السعودي أن هناك خلافاً في الأولويات بين الرياض وطهران: الاهتمام السعودي منصبّ على اليمن والشؤون الإقليمية مقابل التركيز الإيراني على افتتاح السفارات وتأشيرات الحج. ويحرص البريطانيون على التشديد على أن الاتفاق «بداية مسار وليس تتويجاً لاتفاق على الأمور الخلافية». يبدو التحسس البريطاني من اتفاق بكين أكبر بكثير من التحسس الأميركي، نتيجة التوتر الذي يسود العلاقات الإيرانية – البريطانية بعد اتهام طهران للندن بلعب دور أساسي في الاضطرابات الشعبية في إيران نهاية العام الماضي، واتهام وزير الأمن البريطاني لطهران بالتخطيط، منذ عام 2022، لنحو 15 محاولة لاستهداف مواطنين بريطانيين أو إيرانيين مقيمين في بريطانيا، وبإرسال «92 شحنة سلاح إلى روسيا بين شباط وتشرين الثاني 2022 بينها مسيّرات وتقنيات دقيقة» في تهديد مباشر لأمن دول حلف الناتو. أما الأسوأ للندن، فهو أن تطلّ الصين برأسها على ضفتي مضيق هرمز، فيما تجهد بريطانيا للانتقال الاستراتيجي إلى المحيطين الهندي والهادئ لمواجهة بكين.
*أفضل ما يمكن للإيرانيين والصينيين تحقيقه هو تحييد السعوديين من دون إحراز تقدم في أي ملف*
واستكمالاً، تشير معلومات «الأخبار» إلى زيارة المبعوث الفرنسي السفير بيار دوكان لواشنطن منتصف شباط الماضي، لإجراء محادثات حول الملف اللبناني حصراً مع كل من مجلس الأمن القومي ووزارة الخارجية الأميركية ووزارة الخزانة وأعضاء في لجنة العلاقات الخارجية في الكونغرس ومسؤولي البنك الدولي وصندوق النقد. وإذ أكد الأميركيون أن الإرادة السياسية الأميركية تتقدم على قانون قيصر أو غيره في ما يخص إمرار الغاز المصري عبر سوريا إلى لبنان تلبية لتعهّدات الرئيس الفرنسي في هذا الشأن، إلا أنهم وجدوا ذريعة جديدة تتمثل بالبنك الدولي الذي لم يوافق على التمويل. علماً أن الإرادة السياسية التي يمكنها تجاوز قانون قيصر يمكنها الإيعاز إلى البنك الدولي. لكن التمسك الأميركي بالحصار المحكم يتقدم، كما هو واضح، على أمنيات الرئيس الفرنسي. وإذا كان خرق صغير يسمح بتوفير بضع ساعات من الكهرباء ممنوعاً رغم الجهود الفرنسية المتواصلة منذ أكثر من عام، فكيف الحال مع تسوية سياسية – مالية – اقتصادية تريح البلد، بما في ذلك حزب الله. وهو ما يقود إلى القول إن أي نيات حسنة سعودية – في حال وجودها – ستصطدم من دون شك بإصرار الغرب على الالتزام بأجندته ومشروعه، وقطع الطريق على أي انتصار ديبلوماسي صيني. مرة أخرى، فإن ذهاب الأمور في هذا الاتجاه، سيسمح أخيراً بكشف حقيقة النفوذ السعودي، عندما يضطر «الشركاء» والأزلام والأجراء إلى الاختيار أخيراً بين السعودية والولايات المتحدة: بين من كان يدفع مباشرة ومن كان يوعز للسعودية بأن تدفع.