من موقعه القضائي كرئيس لمحكمة التمييز الجزائية كان القاضي جمال الحجّار يتابع مراحل التحقيقات في انفجار المرفأ. وكانت لديه مقاربته القانونية-الشخصية للتعقيدات التي كبّلت الملفّ تدريجياً. لكن بعد تعيينه على رأس النيابة العامّة التمييزية اختلفت المقاربة بحكم الموقع والدور والخطّ الأحمر الذي رَسَمه: التحقيقات لن تبقى مجمّدة والتعاطي مع الملفّ لن يتمّ إلّا ببعده القانوني والقضائي المحض.
ثمّة تساؤلات كثيرة تحيط بملفّ تحقيقات المرفأ منذ لحظة إصدار رئيس مجلس القضاء الأعلى القاضي سهيل عبود قراره بتكليف القاضي الحجار بمهامّ النائب العامّ التمييزي ابتداءً من 23 شباط الماضي.
هل يُسلّم البيطار ملفّه للحجّار؟
لكنّ القطبة تكمن في السؤال الأساس: هل يطلب مدّعي عام التمييز من المحقّق العدلي الاطّلاع على الملفّ لإبداء الرأي؟ حتى الآن لم يعرف هل أُثيرت هذه النقطة في لقاء “التبريك” الذي جمع الحجار بالبيطار، مع العلم أنّ مصادر قضائية استبعدت ذلك. وفي حال طلب القاضي الحجار ذلك فهل يستجيب له البيطار؟ وهل يتكرّر مشهد رفض البيطار تسليم ملفّه للنيابة العامّة. التي لها حقّ الاطّلاع على الملفّ وإعطاء ملاحظاتها وإصدار مطالعتها في الدفوع التي يحيلها المحقّق العدلي إليها بعد النظر في الملفّ. وهذا ما لم يحصل مع البيطار الذي ارتكب سابقة إصدار قراره في الدفوع الشكلية من دون وجود مطالعة من النيابة العامّة؟
استطراداً وبناء على سيناريو افتراضي بتسليم القاضي البيطار ملفّه لمدّعي عام التمييز. هل يمكن أن يأخذ بملاحظاته على الملفّ أم يبقى “عايشها” بتنصيب نفسه “إله القضاء”، ويجيب النيابة العامّة بما مفاده: “لا سلطة لك على المحقّق العدلي”؟ وبالتالي، هل يمكن أن يصدر البيطار قراره الظنّي في قضية انفجار المرفأ من دون أن يمنح النيابة العامّة فرصة الاطّلاع على الملفّ؟
معسكران… وحقيقة واحدة
كان بديهيّاً بعد تسلّم الحجار مهامّه استنفار معسكرين أساسيَّين:
– الأوّل معسكر جزء من أهالي الشهداء وبعض الجهات السياسية وقوى المجتمع المدني بعدما أشبع البيطار “نَهَمَهم” إلى الحقيقة بممارسات أحالته قاضياً فوق القضاء والجمهورية المنهارة.
مصادر قضائية لـ “أساس”: “يتّسم التواصل حالياً بين القاضي الحجار والمحقّق العدلي طارق البيطار بالإيجابية
– الثاني معسكر المدّعى عليهم في القضية. ومن قد يدّعي عليهم لاحقاً البيطار ومَنَعَه توقّف مسار التحقيق من ذلك، والجزء الآخر من أهالي الشهداء. هو معسكر الساعين إلى الحقيقة من دون شعبوية ولا استنسابية ولا تظلّم ولا تمرّد على القوانين ولا تحييد لمسؤولين سابقين وحاليين كانت مسؤوليّاتهم، بالإهمال، واضحة منذ الأيام الأولى للانفجار.
فنيانوس يلتقي الحجّار
حتى الآن أجرى القاضي الحجار مروحة من اللقاءات التي طالت العديد من المعنيّين بملفّ المرفأ وأوّلهم أهالي الشهداء من المقلبين، وقضاة ومحامين. وقد عَلِم “أساس” أنّ الوزير السابق يوسف فنيانوس عاد إلى مزاولة مهنة المحاماة. وقد شملت مراجعاته القاضي الحجار بحضور عدد من القضاة منذ نحو أسبوعين. وتحدّث فنيانوس عن “مطلب العدالة غير المجتزأة البعيدة عن الاستنسابية والكيدية”.
يُذكر أنّ التطوّر الأبرز الذي طَبَعَ مرحلة جمود التحقيقات هو إصدار المحاميَين العامّين لدى محكمة التمييز. القاضيَين عماد قبلان وصبوح سليمان. قرارهما بوقف مفاعيل مذكّرتَي التوقيف الغيابيّتَين اللتين أصدرهما البيطار بحقّ الوزيرين السابقين علي حسن خليل ويوسف فنيانوس.
بين الحجّار والبيطار
تقول مصادر قضائية لـ “أساس”: “يتّسم التواصل حالياً بين القاضي الحجار والمحقّق العدلي طارق البيطار بالإيجابية. لكنّ مكمن المشكلة أوّلاً في الهيئة العامّة لمحكمة التمييز العاجزة عن بتّ عشرات طلبات الردّ والمخاصمة بوجه البيطار وقضاة موجودة أمامها بسبب فقدانها النصاب. أمّا لناحية استئناف النيابة العامّة التمييزية تلقّيها الطلبات أو أيّ إجراءات يقوم بها المحقّق العدلي لإبلاغها للفرقاء المعنيّين. فهنا يعوَّل على دور للقاضي الحجار لإطلاق عجلة التحقيق مجدّداً. وبالتالي كسر حالة الكربجة والعدائية التي سيطرت في الأشهر الماضية على علاقة البيطار ومدّعي عام التمييز السابق غسان عويدات”.
عمليّاً، ملفّ المرفأ أمام تعقيدات قانونية هائلة تحتاج إلى مفتاح سحريّ لحلّ العقدة تلو الأخرى
القرار الظنّيّ قريباً؟
كان لافتاً في هذا السياق تأكيد القاضي البيطار أمام بعض زوّاره أن لا تراجع عن الاجتهاد. الذي أطلقه في كانون الثاني من العام الماضي. واعتبر فيه أنّ “المحقّق العدلي يعلو ولا يُعلى عليه ولا تملك أيّ جهة سلطة ردّه أو تنحيته أو استبداله أو مداعاته”. كما يردّد البيطار أمام زوّاره راهناً “ضرورة عودة التعاون مع النيابة العامّة التمييزية من أجل تأمين سلامة التحقيق”. ملمّحاً إلى إصراره على إصدار القرار الظنّي قريباً، وأن “لا هدف يسكنه سوى كشف الحقيقة في جريمة المرفأ”.
على أثر “اجتهاد” البيطار استأنف الأخير تحقيقاته (علّق التحقيق أربع مرّات آخرها في 24 كانون الأول 2021) وأصدر لائحة بأسماء مدّعى عليهم آخرين. بينهم النائب العام التمييزي (السابق) القاضي غسان عويدات، والمحامي العام التمييزي القاضي غسان الخوري. وهو ما دفع عويدات إلى إعطاء تعليمات للقضاة وقلم النيابة التمييزية بوقف التعامل مع البيطار نهائياً. والامتناع عن تسلّم أيّ مستند منه أو تنفيذ مذكّراته. ثمّ ادّعى على البيطار أنّه قام بـ”انتحال صفة محقّق عدلي واغتصاب سلطة قضائية ومنعَه من السفر”. كما اتّخذ قراراً بإطلاق سراح جميع الموقوفين بملفّ المرفأ وعددهم 19 شخصاً.
تعقيدات قانونيّة
عمليّاً، ملفّ المرفأ أمام تعقيدات قانونية هائلة تحتاج إلى مفتاح سحريّ لحلّ العقدة تلو الأخرى، ومنها:
– استعادة الآلية القانونية التي تحكم مسار التعاون بين النيابة العامّة والمحقّق العدلي.
على أثر “اجتهاد” البيطار استأنف الأخير تحقيقاته وأصدر لائحة بأسماء مدّعى عليهم آخرين
– حلّ أزمة الهيئة العامّة لمحكمة التمييز الجزائية الفاقدة لنصابها منذ 12 كانون الثاني 2022. حيث لم تبتّ التشكيلات القضائية الجزئية لتعيين رؤساء محاكم تمييز أصيلين. ولم يُصَر أيضاً إلى اعتماد اجتهاد قانوني يسمح للأعضاء المنتدبين بالمشاركة في جلسات الهيئة العامّة برئاسة رئيس مجلس القضاء الأعلى القاضي سهيل عبود. مع العلم أنّه مع تكليف الحجار بمهامّ النائب العامّ التمييزي بات أعضاء المجلس مقتصرين على “الريّس” عبود والقاضي عفيف الحكيم من أصل عشرة أعضاء.
– مدى قبول النيابة العامّة باعتبار المحقّق العدلي قاضياً لا يمكن ردّه واستئناف تحقيقاته على هذا الأساس.
– حلّ معضلة مخالفة البيطار للقانون والدستور بادّعائه وطلبه محاكمة سياسيين عدليّاً. وليس من خلال مجلس النواب والمجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء.
– مذكّرات التوقيف الجديدة التي قد يصدرها البيطار فوق ركام النقمة على أدائه الذي تسلِّم أغلبية كبيرة من قضاة العدلية بأنّه “غير منضبط” وشعبوي. ويجعل العدالة منقوصة حين ينخرها الظلم والاستنسابية.
– كيف سيتصرّف القاضي الحجار حيال قرار سلفه عويدات بإطلاق سراح جميع الموقوفين. الذي اعتبره البعض مخالفاً للقانون لأنّه لا صلاحية له بذلك؟ والأهمّ كيف سيتعاطى مع البيطار كـ “منتحل صفة” وفق قرار عويدات الصادر في 24/1/2023؟