مع تحديد موعد لمثول النائبة العامّة الاستئنافية في جبل لبنان القاضية غادة عون أمس للمرّة الثالثة أمام الهيئة العليا للتأديب الناظرة في استئناف قرار فصلها من الخدمة في 4 أيار 2023، تتّخذ المواجهة بين القاضية المتمرّدة وأعلى سلطة قضائية منحى أكثر صداميّة لم يُحسم بعد إمكان أن تصل إلى حدّ الطرد النهائي من السلك القضائي.
لم يكتمل أمس نصاب المجلس التأديبي بتغيّب القاضيين داني شبلي وميراي حدّاد اللذين يصنّفان بالسياسة في خانة القريبين من الخط العوني. هكذا تمكّنت القاضية عون، “بمؤازرة” قضائية، أن تفرض تأخير أو تعطيل حسم الهيئة العليا للتأديب لقرار طردها أو إبقائها في السلك ومعاقبتها. فيما سيكون لتغيّب القاضيين شبلي وحدّاد عن الجلسة ارتدادات داخل العدلية.
فتوى “الأعلى”: عبّود لا يردّ
بعد تقديم عون طعناً بقرار المجلس التأديبي فصلها من الخدمة الصادر في 16 أيار 2023، ثمّ تعيين الرئيس سهيل عبود موعداً لجلسة الاستماع إلى القاضية عون في 22 آذار الماضي (تأخّرت دعوة عبود للجلسة بعد تأخّر القاضية المقرّر الناظرة في الملفّ ميراي حداد في رفع تقريرها إلى الهيئة العليا للتأديب)، ثمّ تقديم عون طلب ردّ القاضي عبود ورفضها المثول للمرّة الثانية أمام الهيئة التأديبية في 11 الجاري، برزت إشكالية أساسية، إذ إنّ طلب الردّ يستدعي اجتماع مجلس القضاء الأعلى لبتّه بنصاب ستّة أعضاء فيما المجلس فاقد لنصابه.
لكنّ معطيات “أساس” تفيد بأنّ مجلس القضاء الأعلى اجتمع قبل فترة واتّخذ قراراً بإجماع عدد أعضائه بعدم جواز ردّ رئيس مجلس القضاء الأعلى بصفته رئيساً للمجلس التأديبي. حَضَر “الريّس” عبود مُكملاً نصاب الجلسة، لكنّه لم يصوّت على قرار بتّ مدى قانونية أو جواز ملاحقة رئيس المجلس التأديبي. هنا استند أعضاء المجلس إلى اجتهادات كبار القضاة وبعض السوابق بعدم جواز ردّ رئيس وأعضاء مجلس القضاء الأعلى.
معطيات “أساس” تفيد بأنّ مجلس القضاء الأعلى اجتمع قبل فترة واتّخذ قراراً بإجماع عدد أعضائه بعدم جواز ردّ رئيس مجلس القضاء الأعلى
على هذا الأساس تمّ إبلاغ عون بموعد مثولها أمام الهيئة العليا للتأديب في 17 أيار من قبل الأعضاء الأربعة في المجلس التأديبي (المقرّر ميراي حداد، عفيف الحكيم، داني شبلي، حبيب مزهر)، أي من دون القاضي عبود ومن دون حضوره الجلسة لو حصلت في موعدها. لكن تطيير النصاب كان بالمرصاد.
لا خطأ مقابل خطأ
تقول مصادر قضائية بارزة لـ “أساس”: “تمّ الاستناد إلى عدّة اجتهادات. فقد يجوز ردّ القاضي عبود بصفته رئيساً أوّل لمحكمة التمييز إذا كان رئيساً لإحدى غرف التمييز، وهو ليس واقع الحال الآن، لكن لا يمكن ردّ رئيس مجلس القضاء الأعلى كسلطة إدارية يرأس المجلس التأديبي”.
تضيف المصادر: “القاضي عبود محنّك ومُتمرّس ولن يسجّل على نفسه ارتكاب الخطأ نفسه الذي ترتكبه القاضية عون بتجاهل طلبات الردّ بحقّها. فالمسار القانوني الذي أسّس له مجلس القضاء الأعلى بحضور عبود وعدم تصويته على القرار أعفاه من مسؤولية تجاهل طلب الردّ بحقّه واستئناف النظر في ملفّ عون أمام التأديبي”.
يُذكر أنّ طلب عون ردّ القاضي عبود استند إلى واقع مثول القاضية عون أمام الهيئة العليا للتأديب المؤلّفة من خمسة أعضاء التي يرأسها القاضي عبود الذي هو نفسه عيّن أعضاء المجلس التأديبي الذي أصدر قرار فصلها من الخدمة، ولأنّ مجلس القضاء الأعلى عيّن أعضاء الهيئة العليا الأربعة. مع العلم أنّ قرار الفصل يومها صدر عن القاضي جمال الحجار (مدّعي عام التمييز بالوكالة حالياً)، لكن من موقعه كرئيس المجلس التأديبي، إلى جانب العضوين أيمن عويدات وميرنا بيضا، وذلك بناءً على عدّة دعاوى أقيمت ضدّها أمام التفتيش القضائي.
تضيف الأوساط: هَدَم الرئيس ميشال عون القضاء حين رفض إقرار التشكيلات القضائية كرمى لغادة عون وغيرها
عون وعون “خَرّبا” القضاء!!
لكن ما هي تداعيات الكباش بين القاضي عبود والقاضية عون؟
تقول أوساط قضائية قريبة من عبود لـ “أساس”: “فتح رئيس مجلس القضاء الأعلى معركة ضدّ رئيس الحكومة بسبب القاضية عون حين دعاه إلى التراجع عن قرارات تمسّ باستقلالية السلطة القضائية، وذلك بعد الكتاب الذي وجّهه ميقاتي إلى وزير الداخلية لاتّخاذ إجراءات تجيزها القوانين في شأن المخالفات المنسوبة إلى القاضية عون ربطاً بالتحقيقات التي فتحتها القاضية عون ضدّ بعض المصارف والحاكم السابق رياض سلامة”.
تضيف الأوساط: “هَدَم الرئيس ميشال عون القضاء حين رفض إقرار التشكيلات القضائية كرمى لغادة عون وغيرها. فقد اختار القاضي عبود الأفضل في مراكز أساسية كالمدّعي العام الاستئنافي، الرئيس الأول الاستئنافي، قضاة التحقيق الأوّل، وغيرها من المراكز الهامّة. هؤلاء “يلقطون” القضاء بكلّ محافظة، وكان ثمّة رهان عليهم. من هنا، كان أداء القاضية عون، بغضّ النظر عن نواياها، أحد أسباب خراب القضاء”.
تذهب الأوساط إلى حدّ القول: “هناك مسؤولية على بعض القضاة الكبار بجعل غادة عون “بطلة” في الإعلام ولدى كثيرين، وذلك بسبب تعطيلهم لسير المرفق القضائي والمحاسبة. هؤلاء يعرفون أنفسهم جيّداً ومراكزهم القضائية تخبر عمّا كان يمكن أن يفعلوه ولم يبادروا إليه لأنّهم أداروا أذنهم لاتصالات المرجعيات السياسية، ولم يأخذوا بتوجيهات رئيس مجلس القضاء الأعلى بضرورة التحرّك وقلب الطاولة على الجميع”. تعلّق الأوساط قائلة: “كي يقوموا بهذا الدور كان يجب أن يكون تاريخهم نظيفاً، وهذا ليس حال معظمهم”.
“جيش” غادة عون!
من هذه النقطة تحديداً يبدأ حديث المدافعين عن القاضية غادة عون وتاريخها “النظيف” قائلين: “انظروا إلى سيارتها التي تقودها ومنزلها وحساباتها في المصارف وقارنوا رصيدها المالي والعقاري مع بعض كبار القضاة ثمّ علّموا عليها”.
تذهب الأوساط إلى حدّ القول: هناك مسؤولية على بعض القضاة الكبار بجعل غادة عون “بطلة” في الإعلام ولدى كثيرين
تحوّلت عون، بتوصيف مؤيّديها، إلى “أيقونة” قضائية بسبب معاركها المفتوحة على خطّ مكافحة الفساد وملاحقة أصحاب المصارف وحاكم مصرف لبنان السابق ودعم قضية المودعين وتحديد المسؤوليات في ملفّ التدقيق الجنائي واستعادة الأموال المحوّلة إلى الخارج، إضافة إلى مواجهتها لرئيس الحكومة بملفّ القروض الماليّة المدعومة.
هؤلاء لا يرون في قرار محاصرتها “سوى محاولة لإقفال الأبواب أمام المحاسبة. فكيف يمكن ملاحقة عون لاحتمال ارتكابها أخطاء قانونية في معرض ملاحقتها لكبار الفاسدين، فيما يسكت القضاء والحكومات منذ دهر على ارتكابات الطبقة الحاكمة السياسية والمالية بما يتجاوز بكثير تقصّد عون أحياناً تجاوز بعض الاعتبارات القانونية من أجل هدف أسمى بكثير”.
عون التي تُحال إلى التقاعد في 1 آذار من العام المقبل تجد “جيشاً” يقف خلفها في كلّ معاركها، مُخطئة كانت أم على حقّ، فيما بدأ التداول منذ الآن ضمن داعميها لاحتمال أن تلعب دوراً سياسياً بعد خروجها من السلك القضائي، سواء طردت أم لم تطرد.