الرئيسيةمقالات سياسيةهجوم على الكرملين في الوقت الأميركيّ الضائع

هجوم على الكرملين في الوقت الأميركيّ الضائع

Published on

spot_img

أعلنت موسكو قبل ثلاثة أيام (الأربعاء) إحباط هجوم بمسيّرتين استهدفتا قصر الكرملين، ووصفت الهجوم بالعمل الإرهابي الذي هدف إلى اغتيال الرئيس فلاديمير بوتين. بصرف النظر عن تمكّن الوسائط الروسية من إسقاط المسيّرتين، ونفي القيادة الأوكرانية صلتها بالهجوم، فإنّ الحدث بحدّ ذاته أتى بمنزلة إعلان دخول الصراع العسكري في أوكرانيا مرحلة جديدة عنوانها تجاوز التقييدات المتعلّقة بالأهداف التي غالباً ما تلتزمها الجيوش النظامية في الصراعات العسكرية، وستكون سمات المرحلة الجديدة استهداف مراكز صنع القرار في أوكرانيا وروسيا وتقويض السلطة وتحييد أو شلّ (neutralization) المرافق الحيوية المدنية.
يأتي الهجوم على الكرملين في سياق عدد من العمليات الخاصة والمكثّفة التي نُفّذت على الداخل الروسي خلال الأيام القليلة المنصرمة، وربّما تتويجاً لها. فقد تسبّبت هجمات بـ”عبوات ناسفة”، في مطلع الأسبوع المنصرم (يومَي الإثنين والثلاثاء)، في إخراج قطارَي شحن عن مسارَيهما في منطقة محاذية لأوكرانيا، وفي تضرّر خطّ لإمداد الكهرباء قرب بلدة في جنوب “سان بطرسبرغ”، وسبق ذلك تعرّض مستودعات نفط في شبه جزيرة القرم لهجوم بطائرة مسيّرة، فيما أسفر هجوم صاروخي آخر على قرية روسية في منطقة بريانسك الحدودية عن مقتل 4 أشخاص. فما هي مبرّرات هذه الهجمات التي لم تعلن كييف مسؤوليّتها عن أيّ منها بالتزامن مع تأكيداتها استكمال استعداداتها للهجوم المضادّ الذي تتحدّث عنه منذ أسابيع؟ وهل تجيز وقائع الميدان لكييف اتّخاذ القرار بشنّ هجوم مضادّ لاستعادة ما احتلّته روسيا منذ شباط 2022؟

في ظلّ التشابك والتعقيد في الملفّات الدولية وصعوبة اتّخاذ القرار بالهجوم المضادّ، ستبقى أوكرانيا قضية معلّقة على الأجندة الأميركية

إنّ أبسط القواعد التي يقوم عليها نظام المعركة أثناء الإعداد للهجوم المعاكس تفترض احتفاظ الجيش الأوكراني بقوى برّية على جهوزية عالية ولم تشترك في القتال بعد، وقادرة على تحقيق تفوّق في ميزان القوى لاختراق الخطوط الدفاعية والاندفاع في العمق لتدمير القوات الروسية بالسرعة الممكنة، قبل أن تتمكّن تلك القوات من استدعاء احتياطاتها الموجودة في العمق الروسي لاستعادة المبادرة.
في هذا المجال لا بدّ من الأخذ بعين الاعتبار أبعاد حقل المعركة التي تمتدّ شرقاً على مسافة 200 كلم تقريباً من خاركيف حتى حدود مقاطعة دونسك مروراً بباخموت، وتمتدّ جنوباً من ماريوبول حتى خيرسون لأكثر من 400 كلم. هذه الأبعاد المترامية لخطوط المواجهة تجعل من المتعذّر على القوات الأوكرانية وحلفائها تحقيق تفوّق في ميزان القوى على امتداد هذه الخطوط، ولن يلبث اقتصار الجهد في هذه الحالة على تحقيق تفوّق محدود في نقطة معيّنة أن يصطدم بغزارة النيران الروسية وبالقدرة على نقل قوى إضافية الى البقعة الحرجة بما يعيد الأمور الى نقطة الصفر.
يُضاف إلى ذلك أنّ القدرات الغربية الناريّة التي ستوضع لدعم القوات الأوكرانية، وهي متوافرة، لن تستطيع تعويض المخاطر التي تفرضها الطبيعة السهلية للجغرافيا الأوكرانية لجهة انكشاف هذه القوات وسهولة تعرّضها للنيران الروسية، هذا إذا افترضنا أنّ الدول الغربية استطاعت تأمين مئات المدرّعات التي يجب أن تشكّل عصب الهجوم المعاكس في الأراضي المفتوحة، وهذا ما يبدو مستحيلاً حتى الآن. وتقدِّم العمليّات المعقّدة في باخموت مثالاً حيّاً للميزات التي تفرضها الطبيعة الجبلية على سيْر العمليات العسكرية مقارنة بالثغرات التي تفرضها الطبيعة السهلية والتي لا يمكن تعويضها إلا بالمزيد من الحشد للوحدات البرّية المدرّعة.

بعد أكثر من عام على انسحاب الحلف الأطلسي من أفغانستان، أدّت الاحتياجات الواسعة لأوكرانيا إلى ظهور تحدّيات تتعلّق بالموادّ اللازمة للعمليات القتالية

أمّا على المستوى الدولي، فقد أعاد العديد من التقارير مسألة التأخّر في اتّخاذ القرار بشنّ الهجوم المعاكس إلى الفشل في إنتاج الذخائر الرئيسية وتوفير الرقائق الإلكترونية المطلوبة للمعركة الموعودة. فبحسب تقرير لصحيفة “وول ستريت جورنال”، أدّت سنوات من سياسات وقف التمويل وخفض التوسّع في الإنتاج وإغلاق بعض خطوط الصناعة العسكرية، التي اعتمدتها الولايات المتّحدة بعد نهاية الحرب الباردة، إلى تراجع جهوزية المصانع وانتقال إنتاج العديد من المكوّنات والموادّ الخام إلى الخارج. وقد اقتصر النجاح الذي حقّقته المصانع الأميركية على زيادة متواضعة في إنتاج صواريخ “جافلين” المضادّة للدروع، وصواريخ “ستينغر” المضادّة للطائرات، وقذائف المدفعية والصواريخ الموجّهة وغيرها، التي استخدمتها القوات الأوكرانية بشكل مكثّف، وبوتيرة أسرع من القدرة على تعويضها. هذا بالإضافة إلى أنّ الأسلحة الأميركية وتلك التي قدّمها الحلفاء الغربيون، والتي ساهمت في صمود أوكرانيا في ساحات القتال، ومكَّنتها من استعادة أراضٍ واسعةٍ احتلّتها روسيا في بداية الحرب، لم تعد متاحة، فالعجز في إنتاج الذخائر والأسلحة المطلوبة يطرح معضلة تمكين أوكرانيا من الاحتفاظ بمكتسباتها في ميدان المعركة مستقبلاً، قبل مناقشة الطموحات المتوخّاة من الهجوم المعاكس. في هذا الإطار يقول الجنرال مارك ميلي، رئيس هيئة الأركان المشتركة، في جلسة استماع في الكونغرس هذا الشهر: “سنراجع جميع تقديراتنا اللوجستية للذخائر الرئيسية المطلوبة لخطط الطوارئ المختلفة”.
في السياق نفسه يقول الأدميرال في البحرية الأميركية جيمس ستافريديس الذي كان على رأس القيادة العليا لحلف شمال الأطلسي (الناتو) قبل أكثر من عقد: “يجب النظر بعمق إلى اللوجستيات وسلاسل التوريد، بالقدر نفسه الذي يُنظر به إلى عمليات الحلف القتالية”، لكن “بعد أكثر من عام على انسحاب الحلف الأطلسي من أفغانستان، أدّت الاحتياجات الواسعة لأوكرانيا إلى ظهور تحدّيات تتعلّق بالموادّ اللازمة للعمليات القتالية لم نتوقّعها: فالحاجة إلى المكوّنات الإلكترونية، بشكل خاص، تتنامى بشكل هائل لإنتاج أسلحة ذات توجيه دقيق، ومُسيّرات متطوّرة، وصواريخ كروز مضادّة للسفن، وقذائف ذكية للمدفعية”.

بدوره تصريح وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن المتعلّق بموقف إدارته من الهجوم على الكرملين، الذي قال فيه إنّ هذه القرارات يجب أن تتّخذها أوكرانيا بشأن كيفية الدفاع عن نفسها، لا يكفي لاستبعاد الولايات المتّحدة من دائرة القرار والتدخّل على المستوى التقني على الأقلّ لإنجاح اختراق المسيّرات للأجواء الروسية ووصولها إلى العاصمة. وبالقدر عينه لا يمكن للهجمات على الداخل الروسي أن تحجب وعود الرئيس فولوديمير زيلينسكي بالهجوم المضادّ في الربيع الذي انقضى أكثر من نصفه، وأن تعوّض ما أُطلق من وعود أوروبية وأميركية بطرد القوات الروسية خارج أوكرانيا.
في ظلّ التشابك والتعقيد في الملفّات الدولية وصعوبة اتّخاذ القرار بالهجوم المضادّ، ستبقى أوكرانيا قضية معلّقة على الأجندة الأميركية، وستقتصر هجمات الدرونز ومهمّة الرئيس زيلينسكي على ملء الوقت الأميركي الضائع إلى أجلٍ غير مسمّى.

أحدث المقالات

قرار مجلس الأمن إنذار أميركي أول لإسرائيل؟

تثبت مجريات الأحداث من غزة إلى جنوب لبنان، واستمرار الاعتداءات الاسرائيلية، كأنّ قرار مجلس...

هل يُسلّم البيطار ملفّه لمدّعي عام التمييز؟

من موقعه القضائي كرئيس لمحكمة التمييز الجزائية كان القاضي جمال الحجّار يتابع مراحل التحقيقات...

“الاشتباك” الأميركي الإسرائيلي: نتنياهو يهدد المنطقة

قراءات متناقضة يمكن تسجيلها في السلوك الأميركي لحظة قرار مجلس الأمن الدولي الداعي لوقف...

The Masterpiece

All angels in heaven made a design . They asked god to keep it an...

المزيد من هذه الأخبار

“المجلة” تنشر نص “اتفاق باريس” بين إسرائيل و”حماس”… تحويل الهدنة إلى حل سياسي من ثلاث مراحل

تكثف دول كبرى وإقليمية، جهودها لتحويل مجموعة من الأفكار إلى خطة عمل بمراحل محددة...

بداية حل الأزمة المصرفية توصيفها

التوقّف عند أرقام الخسارة والفجوة الماليّة، والعودة بالتاريخ إلى الوراء في محاولة لإعطاء حياة...

بكركي تملأ الفراغ المسيحيّ بطاولة مستديرة ووثيقة سياسيّة

مع صعوبة عقد طاولة حوار للقيادات المسيحية في بكركي كما اقترح رئيس التيار الوطني...

باسيل المهمّش والمهشم (1) إنعاش “المارونية السياسية” لتعويم نفسه مسيحياً

منذ انتهاء ولاية العماد ميشال عون رئيسا للجمهورية اللبنانية في 31 تشرين الأول 2022،...

البطريرك الراعي: الرئيس لا يُنتَخَب في صالون المجلس

مجرّد صدور الدعوة إلى تلاقي القيادات المسيحية في بكركي “حماية للوجود المسيحي والشراكة المتناصفة...

اللجنة الخماسية: خارطة طريق السفراء

يقول سفراء اللجنة الخماسية المعنيّة بالملفّ اللبناني إنّهم يعملون على رسم ملامح خريطة طريق...

مداراة غربية لطهران.. لا تفاهمات نووية قبل الإنتخابات الأمريكية

لا أحد يملك جواباً حاسماً حول مآل المفاوضات الأميركية الإيرانية في سلطنة عُمان، في...

ما بين نيويورك والدوحة: رفح وبيروت تنتظران “لحظات حرجة”!

ما بين أروقة الأمم المتحدة وقطر اكثر من جديد متوقع، وابرزه يقود الى مشروع...

الدولة الفلسطينية إنقاذ أم خديعة؟

مثل مفاجأة الحرب، جاءت مفاجأة الدولتين. كلّ العالم يريد وقف النار، والمساعدات، والعمل على...

“طاولة برّي” لن تنعقد والراعي لن يُلَبّي نداء باسيل!

لا أحد قادر حتى الآن على تقدير “الكلفة” العسكرية والبشرية والسياسية لإبقاء “جبهة المساندة”...

“بورصة” الحرب الإقليمية يتلاعب بها الجموح الإسرائيلي و”الدهاء” الإيراني

لا خيار إلا تشبيه مسار الحرب على غزة، وانعكاسها على الساحة اللبنانية، بـ”البورصة” أو...

جواب ديبلوماسي على المبادرة الفرنسية لم يخرج عن “المبدئية”

لا يمكن المقارنة بين تأثير الورقة الفرنسية التي تقدمت بها فرنسا إلى لبنان والمتعلقة...

حكومة محمد مصطفى في فلسطين: إدارة الحرب… أو الحلّ؟

قبل أن يعهد الرئيس الفلسطيني محمود عباس إلى محمد مصطفى تشكيل حكومة، كان يصعب...

الحــزب: عون غيّر رأيه.. ولم نَعِد باسيل بشيء

هل يمكن لأيّ تسوية رئاسية أو سياسية مقبلة أن تأتي فوق ركام علاقة التحالف...

اللحظة المناسبة لـ”الحــزب” والمعارضة: تسوية تقطع طريق الحرب الإسرائيلية

يقول التقرير الذي نشرته وكالة “رويترز”، عن اللقاء بين أمين عام حزب الله، السيد...