تعدّدت المهل التي أُعطيت لإنجاز الاستحقاق الرئاسي من دون أن تَصدُق أيّ منها. إلا أنّ العام الثاني للفراغ اختلفت حساباته مع حرب غزة. في الواقع اختلفت حسابات المنطقة حيث جمعت القوى المعنيّة أوراقها واحتفظت بها ليوم الحساب.
بات الملفّ اللبناني عالقاً في حسابات حرب غزة وسقطت كلّ محاولات الدول لفصل الرئاسة عن الحدود. اليوم تضرب الاستحقاقات مواعيد جديدة لها بناء على حرب غزة هذه المرّة. انتخاب رئيس قبل الصيف، أي في حزيران، ليس موعداً مرتبطاً بالطقس، بل هو مرتبط حتماً بما ينتظر لبنان في حال عدم انتخاب رئيس. إذ وضعت القوى الدولية للبنان معادلة خطيرة تتلخّص بكلمتين: الخماسية أو نتنياهو.
خطاب تصعيديّ من عوكر
صدَق الكلام عن عودة ذات زخم للسفيرة الأميركية ليزا جونسون من واشنطن. عادت مصمّمة على استخدام لغة مختلفة عن تلك التي استخدمتها الخماسية منذ بدء عملها. إذ استدركت الخماسية أنّ فشلها في التأثير على القوى السياسية اللبنانية مردّه إلى أنّ الأخيرة تراوغ معتقدة أنّها تستطيع خداع الدول الخمس من جهة. وتستطيع تمرير الوقت لكسب مزيد من الأوراق في المزاد الأخير من جهة ثانية. عادت جونسون واستقبلت السفراء الأربعة الآخرين في عوكر.
حدّد اجتماع الخماسية في عوكر الاستراتيجية لعملها بعد مراوحة الملفّ مكانه منذ بداية مهامّها في لبنان. وقرأ المطلعون على خفايا البيان الصادر عن اللجنة، أنّها تقصدت إرسال إشارات إلى المعنيين تفيد بخطورة عدم التزامهم إنجاز الاستحقاق الدستوري، ولا سيما على علاقتهم بالخارج محدّدة ضوابط نهائية لانتخاب الرئيس.
لمزيد من الدقّة استعادت الخماسية التأكيد على ثوابتها منذ بيان نيويورك الثلاثي بين أميركا وفرنسا والسعودية وصولاً إلى بيان الدوحة الصادر بعد اجتماع الخماسية في تموز 2023 بعدما أُضيفت قطر ومصر إلى الثلاثية. وأهمّها :
– أوّلاً: الاتفاق على استمرار المشاورات بين الخماسية والقوى اللبنانية حتى نهاية أيار لإجراء الاستحقاق كفرصة إضافية قبل الفشل في المسعى الدبلوماسي .
– ثانياً: أكّدت اللجنة تثمينها لجهود كتلة الاعتدال الوطني من أجل إنجاز الاستحقاق الرئاسي.
تقول مصادر دبلوماسية لـ”أساس” إنّ الكلام عن أيار وحزيران ارتبط بالسباق بين الجهود الدبلوماسية
– ثالثاً: عادت اللجنة وشدّدت على مواصفات رئيس الجمهورية بناء على مندرجات بيان الدوحة الصادر في تموز 2023 وفق خارطة الطريق.
ربّما أهمّ ما تركّز عليه الخماسية في بيان الدوحة ثلاثة بنود:
1- انتخاب رئيسٍ للجمهورية يجسّد النزاهة ويوحّد الأمّة ويعطي الأولوية لتنفيذ الإصلاحات الاقتصادية الأساسية. لا سيما تلك التي يوصي بها صندوق النقد.
2- التشديد على ضرورة الإصلاح القضائي وتطبيق سيادة القانون. لا سيما في ما يتعلّق بالتحقيق في انفجار مرفأ بيروت عام 2020.
3- التأكيد على أهمّية تنفيذ الحكومة اللبنانية لقرارات مجلس الأمن الدولي والاتفاقيات والقرارات الدولية الأخرى ذات الصلة. بما فيها تلك الصادرة عن جامعة الدول العربية، بالإضافة إلى التزام وثيقة الوفاق الوطني التي تضمن الحفاظ على الوحدة الوطنية والعدالة المدنية في لبنان.
الرئاسة والحدود أو الحرب
فشلت كلّ المهل الزمنية السابقة التي حاولت وضع القوى اللبنانية في الزاوية، وتحديداً الحزب الذي يربط استقرار الجبهة الجنوبية بحرب غزة.
بالتالي نجح الحزب في فرض هذا الخيار على المجتمع الدولي وأسقط كلّ محاولات الخرق السابقة. أمّا اليوم فيقف الحزب أمام معادلة جديدة.
تقول مصادر دبلوماسية لـ”أساس” إنّ الكلام عن أيار وحزيران ارتبط بالسباق بين الجهود الدبلوماسية التي تقوم بها الخماسية والتهديد الإسرائيلي الجدّيّ بالحرب. وبالتالي يحاول المجتمع الدولي منع الحرب من الوصول إلى انتخاب رئيس يشرف على مفاوضات الحدود. تزامناً مع قرار وقف إطلاق النار في غزة المقبل حتماً.
الرئاسة
تضيف المصادر الدبلوماسية أنّ قرار وقف الحرب في غزة لن يوقف الحرب على لبنان. لذلك الفشل في انتخاب رئيس يمسك بملفّ الحدود للبدء بالتفاوض الرسمي مع الدولة اللبنانية سيكون بديله تصعيداً إسرائيلياً على لبنان لن تستطيع حتى الولايات المتحدة الأميركية منعه.
ابتعدت السلّة والرئاسة عن الحزب وخرجت مصادره لا بل قياداته تنتقد هوكستين علناً على منابرها
ما بين الحزب وهوكستين: غرام وانتقام
كما هو مفترض وواقعي، يحاول الحزب أن يربح أكبر عدد من الجولات الدبلوماسية والعسكرية. فهو نجح حتى الساعة في فرض شروطه على التفاوض الدبلوماسي. ونجح في ضبط إيقاع المواجهة في جنوب لبنان على الرغم من الخسائر الضخمة والنوعية التي مُني بها إثر اغتيال قادة له في الميدان. اليوم وقد انتقل مستوى الاشتباك إلى عمق أكبر يمسك الحزب بورقة الحدود مدركاً أنّها أولوية المجتمع الدولي المستعدّ أن يدفع ثمنها باهظاً.
وعليه تتحدّث مصادر مقرّبة من الحزب أنّه فهم من هوكستين في زيارته الأولى للبنان أنّ بلاده مستعدّة للذهاب إلى اتفاق على سلّة متكاملة تتضمّن الحدود والرئاسة بما يعطي الحزب الكلمة الفصل في هويّة الرئيس. يومها خرجت مصادر مقرّبة من الحزب تعبّر عن إعجابها بهوكستين وتفضيلها إبقاءه وسيطاً. إلا أنّ كلّ شيء تغيّر بعد إعادة تنظيم الأدوار في الإدارة الأميركية بين هوكستين بتفويضه بالحدود حصراً، وهذا دور مرجّح أن ينتهي، وبين باربرا ليف وليزا جونسون في تفويضهما بـ”الرئاسة”. بالإضافة إلى التأكيد أنّ واشنطن لا تخرج عن إجماع الخماسية الملتزمة بيان نيويورك ثمّ بيان الدوحة. وبالتالي ابتعدت السلّة و الرئاسة عن الحزب وخرجت مصادره لا بل قياداته تنتقد هوكستين علناً على منابرها.
عليه فشلت محاولة الحزب فرض التفاوض بينه وبين الإدارة الأميركية حتى اللحظة لأنّ المطلوب دولياً هو التفاوض بين الدولة اللبنانية ومن خلفها الحزب بطبيعة الحال وبين الولايات المتحدة والمجتمع الدولي.
بات الملفّ اللبناني عالقاً في حسابات حرب غزة وسقطت كلّ محاولات الدول لفصل الرئاسة عن الحدود
أمّا اليوم وقد وصلنا إلى المهل الفاصلة مع التهديد الإسرائيلي، فتتحدّث مصادر دبلوماسية لـ”أساس” أنّ الحزب بدأ يمهّد لانسحابه عشرة كيلومترات بقول قياداته: “في الأساس لا مراكز للحزب على الحدود”. إلا أنّ الحزب يحاول بالمقابل كسب “نقاط” في التفاوض، وهو حتماً سيحصل عليها. سيخرج الحزب منتصراً بالمعنى اللبناني الضيّق أمام جمهوره في “تحرير الأرض وتثبيت الحدود واستخراج النفط”. لكنّه في المشهد الأوسع سيكون مضطرّاً إلى الالتزام بموازين القوى الدولية التي لن تكون إيران بعيدة عنها. وفيها تجربة كتب عنها ديفيد شينكر في “الواشنطن إنستيتيوت” داعياً إلى عدم تكرار تجربة اتفاق الدوحة عام 2008 يوم نجح الحزب في فرض الثلث المعطّل وانتخاب رئيس “صديق” له يومها قائد الجيش ميشال سليمان.
تقرأ الأوساط الدبلوماسية في ذلك الاتفاق حصول الحزب على مكتسبات في “النظام” و”بنية الدولة الإدارية”. مقابل انقلابه على الاتفاق الأمنيّ الذي رافق تلك المكتسبات. وبالتالي المشهد اليوم مختلف تماماً. إذ تؤكّد مصادر دبلوماسية مطّلعة على عمل الخماسية أنّ الاتفاق على الحدود سيحصل مع “الدولة اللبنانية”، أي مع انتخاب رئيس كما ينصّ الدستور. وبالتالي المدخل إلى السلّة هو انتخاب رئيس يمتلك مواصفات الخماسية، ثمّ بدء المفاوضات والحصول على المكتسبات و”الانتصارات”. وإلّا فإنّ التهديد الإسرائيلي بالحرب جدّي واقتربت مهلة فرص تجنّبه إلى النهاية.
هل يصدق هذه المرّة المجتمع الدولي في تقديراته؟ وهل ينفّذ فعلاً نتنياهو تهديداته بعدما تعدّدت في الأشهر الماضية وبقيت في إطار التهويل؟ وماذا سيختار الحزب؟ هل يلعب “صولد” أو يذهب إلى الحلّ؟