حين انطلقت صواريخ حركة حماس من جنوب لبنان نحو شمال فلسطين، كانت الإدارة الأميركيّة تُطلِق “رشقة” اتصالات مكّوكيّة لاحتواء أيّ تصعيدٍ في المنطقة.
أبلغَت واشنطن من يعنيهم الأمرُ في تل أبيب: “لا نُريدُ حرباً في المنطقة على توقيت رئيس الوزراء بنيامين نتانياهو”، وكان هناك تفصيل أساسي و”تقنيّ” في الرسالة: “لا نستطيع إقامة جسر جوّيّ لنقل الذخائر إليكم”، لأنّ الجسور الأوكرانية ترهق الغرب وموازناته ومصانع أسلحته وذخيرته.
الرّسالة نقلها مُستشار الأمن القوميّ الأميركيّ جايك سوليفان إلى المعنيّين في الدّولة العبريّة. بعدها حرّكَ سوليفان اتصالاته نحوَ العاصمة المصريّة القاهرة والعاصمة القطريّة الدّوحة.
مجدّداً تَجد واشنطن في الدّور المصريّ قاعدة أساسية لاحتواء التصعيد على جبهة قطاع غزّة، وقَطَر لا غنى عنها في احتواء جبهتَيْ الشّمال مع سوريا ولبنان.
نجَحَت واشنطن وشركاؤها في نزع فتيل التّوتّر ولو مؤقّتاً. قد تحمِلُ الأيّام الأخيرة من شهرِ رمضان توتّرات جديدة، خصوصاً أنّ إيران تنتظر في كلّ عامٍ يوم الجُمعة الأخير من الشّهر الفضيل لتضغط على تل أبيب تحت مُسمّى “يوم القدس العالميّ”
ماذا في كواليس الاتّصالات؟
بحسب المعلومات التي حصلَ عليها “أساس” من مصدر إقليميّ واسع الاطّلاع، تولّى رئيس الاستخبارات المصريّة اللواء عبّاس كامل التّواصل مع حركة حماس والجانب الإسرائيليّ. تحدّث كامل مرّات عديدة مع رئيس الحركة إسماعيل هنيّة ورئيسها في غزّة يحيى السّنوار.
أبلغَ قادة “حماس” الجانب المصريّ أنّهم لا يسعون إلى مواجهة شاملة، وأنّهم على استعداد للتهدئة على جبهة غزّة في حال بقيَ الرّد الإسرائيليّ محدوداً ومُتناسباً ولا يتخطّى قواعد الاشتباك المُتوافَق عليها ضمنيّاً.
أبلغَ كامل رسالة “حماس” إلى الأميركيين، الذين بدورهم أكّدوا للجانب الإسرائيليّ أنّهم لا يريدون أيّ تصعيدٍ، وأصدروا بياناً من وزارة الخارجيّة أكّدَ ما سُمّيَ “حقّ إسرائيل في الدّفاع عن نفسها”، في مُقابل أن تكتفي تل أبيب بقصف بعض مراصد “حماس” في خان يونس ورفَح وحيّ الزّيتون.
الدوحة: الدور الأصعب
بالانتقال من القاهرة إلى الدّوحة حيث كانَ وزير الدّولة في الخارجيّة الدّكتور محمّد بن عبد العزيز الخليفي يتّصِلُ بحزب الله والإيرانيين، يتبيّن أن الجانبين رفضا إعطاء أيّ ضماناتٍ بعدم الرّدّ على استهداف الأراضي اللبنانيّة، خصوصاً إذا استهدَفَت إسرائيل مواقع الحزب أو مسؤولين من “حماس” موجودين في لبنان.
فَهِمَ القطريّون من جواب الحزب وإيران أنّهما لا يريدان التّصعيد، لكنّ الأمر مُرتبِطٌ بطريقة الرّدّ التي سيُقرّرها بنيامين نتانياهو في مجلس وزرائه المُصغّر الذي انعقدَ قبل شنّ الغارات لـ4 ساعات ونيّف.
أوصلَ الخليفي الرّسالة إلى واشنطن، التي بدورها نقلتها إلى تل أبيب. تقرّرَ الرّدّ بغارة على حقول الموز في “سهل القليْلة” الجنوبيّ لتجنّب التّصعيد لسببيْن أساسيَّيْن:
الأوّل: لا يستطيع نتانياهو أن يتجاوزَ إطلاق الصّواريخ من لبنان، خصوصاً أنّ حكومته تحمل عنواناً أمنيّاً وتضمّ وزراء مُتطرّفين من الحركة الصّهيونيّة الدّينيّة مثل وزير الأمن الدّاخلي إيتمار بن غفير ووزير الماليّة بتسلئيل سموتريتش اللذيْن كانَا يُصرّان على الرّدّ في الليلة نفسها.
كانَ نتانياهو في موقفٍ مُحرِجٍ داخليّاً، إذ إنّ “الصّهيونيّة الدّينية” تستطيع أن تفرُط الائتلاف الحاكم وتُخرجه من السّلطة، بقوّة 14 نائباً منحوا نتانياهو الأكثريّة الضّعيفة في الكنيست.
الثّاني: يشيرُ استهداف سهل القليْلة إلى أنّ تل أبيب تجاوبَت مع المساعي الأميركيّة – المصريّة – القطريّة. إذ إنّ الغارة استهدَفت أرضاً خالية، ولم تطُل أيّ موقع الحزب ولم تنجم عنها خسائر بشريّة تضع الحزب في موقفٍ لا يحتمِلُ إلّا أن يردّ على الغارة.
تخطّى الجميع، أقلّه حتّى السّاعة، احتمالات التّصعيد على الجبهات. لكنّ كثيرين يتساءلون عن الموقف الأميركيّ الذي لم يُطلِق يدَ نتانياهو ضدّ “حماس” أو الحزب.
حين انطلقت صواريخ حركة حماس من جنوب لبنان نحو شمال فلسطين، كانت الإدارة الأميركيّة تُطلِق “رشقة” اتصالات مكّوكيّة لاحتواء أيّ تصعيدٍ في المنطقة
واشنطن لـ”تل أبيب”: لا جسر جوّيّاً
بحسب معلومات “أساس” قال الأميركيون صراحةً للإسرائيليين إنّهم غير قادرين على مدّ جبهتيْن بالسّلاح والذّخيرة. قصدَ الأميركيّون بهذا أنّ أولويّتهم هي تزويد أوكرانيا بالسّلاح والذّخيرة في حربها ضدّ روسيا غريمة أميركا.
كانَ “أساس” قد نشرَ في 26 آذار الماضي، أي قبل التّوتّر جنوباً، أنّ مُساعدة وزير الخارجيّة الأميركيّ لشؤون الشّرق الأدنى باربرا ليف ناقشَت أثناء زيارتها لبنان الأوضاع على الحدود الجنوبيّة، وسألت عن مدى جدّيّة تهديدات الحزب الأخيرة والتّوتّر مع إسرائيل. ونقلَت أنّ إدارتها تُريد أن تبقى الحدود هادئة، وهو كلام يبدو أنّه يتضمّن رسالة أميركيّة تتنصّل من تهديدات نتانياهو. كما أنّ الإدارة الأميركيّة تتوجّس من إمكانيّة انفلات الأمور على الحدود بين لبنان والأراضي المُحتلّة في حال قرّرَ رئيس الوزراء الإسرائيليّ الهروب من أزمته الدّاخليّة إلى مواجهة مع الحزب.
لا يريدُ الأميركيّون أيّ مواجهة قد ينجمُ عنها توتّر في سوق الطّاقة في حال أقدَم الحزب وإيران أو حتّى “حماس” على استهداف منصّة كاريش وغيرها من منصّات الغاز والنّفط الإسرائيليّة في مياه البحر المُتوسّط. إذ تُعدّ الحقول الإسرائيليّة مصدراً رئيسيّاً لتصدير الغاز الطّبيعيّ والنّفط إلى القارّة الأوروبيّة.
اتّفاق الاستسلام النفطيّ
هذا ما يُفسّر تطرّق نتانياهو في بيانه مساء الإثنين إلى مسألة ترسيم الحدود مع لبنان. إذ وصفَ اتفاق الترسيم الذي رعَته واشنطن بأنّه “اتفاق استسلام زادَ من الهجوم على إسرائيل”.
كانت رسالة رئيس الوزراء الإسرائيليّ موجّهة إلى عاصمة القرار. فاتّفاقُ ترسيم الحدود بين لبنان وإسرائيل هو أوّل إنجازٍ خارجيّ لإدارة الرّئيس جو بايدن، خصوصاً أنّ مسارَ مُفاوضاتها النّوويّة مع إيران تعقّدَ وتوقّف منذ أشهر.
حاول نتانياهو بهذا التلميح أن يعيدَ خطوط تواصله مع واشنطن إلى السّكّة الصّحيحة، ووجَدَ في ملفّ الترسيم باباً لاستفزاز الإدارة الأميركيّة التي يتّهمها أنصاره بدعم المُعارضة والتّظاهرات المُندلعة ضدّه في الدّاخل.
لكنّ مكمَن الخطر في بيان رئيس حزب الليكود كانَ إعلانه أنّه “لن يسمحَ” لحركة حماس “بإنشاء بنىً تحتيّة في جنوب لبنان لمُهاجمة إسرائيل”. عزّزَ نتانياهو موقفه بنيله تأييد زعيم المُعارضة يائير لابيد لأيّ عملٍ يقوم بهِ ضدّ ما سمّاه “الإرهاب”، على الرّغم من الجوّ المُتوتّر الذي سادَ اللقاء بينهما قبل يوميْن.
نجَحَت واشنطن وشركاؤها في نزع فتيل التّوتّر ولو مؤقّتاً. قد تحمِلُ الأيّام الأخيرة من شهرِ رمضان توتّرات جديدة، خصوصاً أنّ إيران تنتظر في كلّ عامٍ يوم الجُمعة الأخير من الشّهر الفضيل لتضغط على تل أبيب تحت مُسمّى “يوم القدس العالميّ”. وبعض الأصوات القريبة من الحزب تدعو إلى “أخذ نَفَس عميق خلال الأسبوع المقبل”.