دخلت أزقة وأحياء مخيم عين الحلوة موسوعة خطوط التماس الإقليمية في لبنان لتنضم الى خطوط سبقتها لا تزال تعيش في ذاكرة اللبنانيين منذ اندلاع المواجهات الإقليمية على أرض لبنان في العام 1975. الإقتتال المتفاقم بين الفلسطينيين ليس وليد نزاع على تشكيل سلطة وطنية تعذّر حله بالحوار، إنه محطة دامية على مسار تغيير قسري لهوية منظمة التحرير الفلسطينية. وبهذا فإن إتفاقات وقف إطلاق النار التي يتم التوصل إليها محلياً لن تدخل حيز التطبيق.
أجل سيتعايش اللبنانيون حتى إشعار آخر وسيألفون أخبار الإشتباكات في أحياء حطين والصفصاف والطوارئ والشارع الفوقاني وسواها، كما تعايشوا أعواماً مع وقائع مماثلة على محاور الشياح عين الرمانة وعيتات سوق الغرب وسواها وبعدها محور باب التبانة جبل محسن قبل موقعة نهر البارد، وبعدها على محاور إقليمية بعد أن انتقل فريق منهم للقتال على خطوط تماس إستحدثت خارج لبنان سواء في سوريا أو اليمن.
لقد استشهد اللبنانيون على طرفيّ خطوط التماس وفي عمقها الجغرافي من أجل عروبة لبنان لحسم هوية ملتبسة، ونصرة لفلسطين للتأكيد على مواجهة عدو مغتصب، ومن أجل إصلاح نظام سياسي طائفي بهدف العبور الى دولة المساواة والمواطنية، ومن أجل إسقاط اتّفاق 17 أيار للتأكيد على قرارهم الحر رغم الإحتلال. إكتشف اللبنانيون بعد أن وضعت حروب الآخرين على أرضهم أوزارها أن تلك العناوين التي اندفعوا للقتال من أجلها، وأن الإنقسامات التي عمقتها خطوط التماس التي تحشدوا خلفها، وأن أمنهم الوطني برمّته قد تحولت جميعها الى أوراق لتعزيز النفوذ وتحسين شروط التفاوض لدى أنظمة عائلية ومذهبية فاسدة وبعيدة كل البعد عن العروبة وفلسطين.
لا يمكن فصل خطوط التماس التي شهدها لبنان وبعده العراق وسوريا واليمن ـــ والتي أُسقط نموذجها اليوم في أحياء عين الحلوة ـــ عن المشهد الإقليمي القائم بصراعاته القاتلة الذي يتوسل تغيير الهوية والخطاب الديني لتمدد النفوذ. لقد درج مهندسو خطوط التماس الإقليميون على استنهاض الخصوصيات وإحداث حالات من القطع القسري عند كل تمايز ثقافي أو في طريقة الحياة وتحويل إمكانية التواصل التي يفرضها حال التجاور الى حذر وقلق دائمين. في عين الحلوة ترسّم الخطوط ضمن الجماعة السياسية الواحدة لمجرد الإختلاف في الموقف السياسي بهدف إحكام السيطرة على قرارها مما يكسبها بعداً تدميرياً يستحيل معه إعادة بناء متّحد سياسي.
يقدّم الصراع الدائر في عين الحلوة الصورة الأكثر خطورة للإنقسام الذي عرفته الطائفة الشيعية بعد دخول النفوذ الإيراني الى لبنان والذي أشعل خطوط التماس بين حركة أمل وحزب الله على امتداد القرى والبلدات التي سكنتها العائلات الواحدة. مثلت الحرب التي اندلعت في مارس 1988 وعرفت بحرب الأخوة ذروة الصراع على جنوب لبنان بين سوريا وإيران. إن مراجعة سريعة لمسلسل الأحداث الدامية التي عرفتها مدن وقرى الجنوب اللبناني من النبطية الى جبشيت وزوطر الشرقية والدوير وكفرفيلا وكفرملكي وجباع وعين بوسوار والتناوب على احتلالها من قبل حزب الله وحركة أمل وتمدد الإشتباكات الى الضاحية الجنوبية وبيروت، تؤكد خطورة الإرتهان للصراع الإقليمي على متّحد مجتمعي متجانس، كما يؤكد الواقع اللبناني القائم خطورة الإستباحة الإقليمية للبنان ومدى صعوبة وربما استحالة إعادة تكوين متّحد وطني حقيقي. من ناحية أخرى، إن العودة للخطاب التعبوي والتخويني الذي استخدمه في حينه أعداء الأمس وحلفاء اليوم الذين يريدون إقناع اللبنانيين بصوابية خياراتهم يؤكد هشاشة التحالفات السياسية القائمة حالياً وإمكانية انهيارها أمام أي تبدل في موازين القوى وتبدل في المصالح.
توقفت حرب الأخوة في إقليم التفاح والضاحية الجنوبية وبيروت في تشرين الثاني 1990 بعد اتّفاق وقّع في دمشق بإشراف إيران وسوريا الدولتين المنتميتين اليوم الى محور الممانعة، ممثلتين في حينه بوزير الخارجية السوري فاروق الشرع ونظيره الإيراني علي أكبر ولايتي. لقد كرّس الإتفاق السوري الإيراني في حينه صيغة لتقاسم النفوذ في لبنان، ربما لم تصمد أمام صعود النفوذ الإيراني في أكثر من بلد عربي وبعد انسحاب الجيش السوري. تبدو الحرب في عين الحلوة أشد قسوة مع إصرار طهران على تغيير هوية منظمة التحرير. فهل يحاكي مخيم عين الحلوة ما جرى في إقليم التفاح؟