هل قرّر النظام الإيراني إزالة الكيان الإسرائيلي من الوجود؟
الجواب المبدئي: بالتأكيد.
الجواب العمليّ:… لكنّ التنفيذ مؤجّل الآن. لأنّنا “نحتاج إلى بعض الوقت”.
يبقى السؤال الأساسي والأخطر: “بعض الوقت”، لاستكمال ماذا وتحقيق ماذا؟ وكيف وبأيّ وسائل؟
هنا يكمن القلق الأكبر حيال الآتي.
***************************
قبل أيام نقل زميلنا في “أساس” قاسم قصير عن أحد مسؤولي محور الممانعة، وفي جلسة تقويم لحرب غزة، كلاماً كبيراً. قال إنّ المطلوب لما بعد الحرب، “صياغة مشروع سياسي جديد للمستقبل، في ضوء نتائج هذه المعركة الضخمة ووضع الآليّات المناسبة لتنفيذه”.
هو مشروع سياسي إذن. ولكلّ المنطقة. أقلّه الجزء المعنيّ منها بالحرب مع الكيان الصهيوني. والمطلوب تجهيز وإعداد “الآليّات المناسبة لتنفيذه”.
المؤكّد أن لا جديد في هذا التفكير. فالتجارب السابقة والوقائع الراهنة تكشف معالمه ومخاطره.
ثلاث محطّات في المنطقة
ثمّة محطّات ثلاث لحروب حصلت في المنطقة. وكانت نتائجها معروفة أيضاً. وصار ما انتهت إليه جزءاً من واقعنا التاريخي المعاصر:
– الأولى كانت مع ما سُمّي “النكبة” وقيام الكيان سنة 1948. يومها ارتدّ الوجدان العربي فوراً إلى مقولة تحميل الأنظمة العربية مسؤولية الهزيمة. وكانت النتيجة الأولى انطلاق باكورة موجات الانقلابات العسكرية في منطقتنا وبروز ظاهرة العسكريتاريا العربية. على أنقاض أنظمة ما بعد الاستعمار. بدأت الظاهرة في دمشق فوراً. قيل يومها أنّه كان لها ملحقٌ لبناني مع أنطون سعادة. لكنّه قُمع فوراً بالإعدام. ثمّ استغرقت الموجة بضعة أعوام لتصل القاهرة. وأخرى مماثلة لتبلغ بغداد. وكرّت السبحة… وطبعاً لم تنتصر فلسطين. بل خسرت البلدان المعنيّة مزيداً من حرّياتها وازدهارها معاً.
اليوم تبدو مرحلة ما بعد حرب غزة أمام احتمالات مطابقة. والخشية أن يكون النظام الإيراني قد بدأ يعدّ العدّة لها
– المحطة الثانية كانت بعد ما سُمّي “النكسة” سنة 1967. السيناريو نفسه: الأنظمة مسؤولة عن الهزيمة. تغييرها ضروري لإزالة الكيان الغاصب وتحرير فلسطين. فبدأت الموجة الثانية في أكثر من بلد بشكل شبه متزامن: انقلاب على الانقلابيين في العراق. مثله في سوريا مع سيطرة الأسد. في ليبيا ثورة بنكهة سورياليّة إكزوتيكيّة. محاولة فاشلة في الأردن في أيلول 1970. وقبلها وبعدها تحريك مكثّف للفالق اللبناني منذ نيسان 1969 حتى الانفجار الكبير…
وحده عبد الناصر، المعنيّ الأوّل وشبه الأوحد بحدث “النكسة”، عرف كيف يتجنّب الكأس. وذلك عبر لجوئه إلى سيناريو “التنحّي” والطوفان الجماهيري المؤيّد له والمؤبّد له. ولم يتأخّر التأبيد فعلاً. إذ لم يعطَ “الهرم الرابع” الوقت للتأكّد من نجاته الكاملة. فغاب في أيلول 1970، في تزامن غريب مع الانقلابات العربية الأخرى. ليتمّ التغيير في القاهرة بسلاسة “ساداتيّة”، انتهت هي أيضاً بالدم، بعد حرب وسلم واغتيال…
– تبقى محطة ثالثة أكثر قرباً في الزمان والمكان. إنّها عدوان تموز 2006 على لبنان. بعد 33 يوماً من توحّش الكيان في القتل والتدمير، ومن صمود لبنان، للمرّة الأولى واليتيمة ربّما، بجيش وشعب ومقاومة، انتهت الحرب بقرار أمميّ يحمّل الحزب مسؤولية الحرب. فيما تمايزت حكومة السنيورة في الموقف داخلياً وخارجياً. فاندلعت فور انتهاء حرب تموز، حرب الاتّهامات بين الضاحية والسراي الكبير. ولم تلبث أن تحوّلت بعد 4 أشهر، حصاراً “حزبلّاهيّاً” لمقرّ رئاسة الحكومة. لتنتهي بعد سنة ونصف بأحداث 7 أيار الدموية…
اليوم تبدو مرحلة ما بعد حرب غزة أمام احتمالات مطابقة. والخشية أن يكون النظام الإيراني قد بدأ يعدّ العدّة لها. وتحديداً عبر “مشروع سياسي جديد”، يهدف إلى “سدّ الثُغر” التي يعتبر نظام الملالي أنّها تكشّفت خلال الحرب، وحالت دون إزالة الكيان، ومنعت محور الممانعة من تحقيق نصره النهائي. والثُّغر المقصودة، هي الأنظمة العربية التي لم تنخرط بعد في معسكر إيران.
إرهاصات ما بعد غزّة
في هذا السياق بالذات، تبدو الاستهدافات واضحة. حتى إنّ بعض إرهاصات ما بعد غزة قد بدأ يظهر على أرضها:
في الأردن حركة مريبة من الحدود إلى الداخل. مع ضغط كبير على المملكة، باسم فتح طريقها لتحرير فلسطين. وفي “الطريق نحو القدس”، لا ضير من فتح طرق فرعية للكبتاغون وأخواته.
في مصر، ضغط مماثل من بوّابة رفح، إلى حركات احتجاج الداخل، وتظهيرها على منصّات الإعلام الممانع أو البديل.
وصولاً طبعاً إلى بلدان الخليج، وفي طليعتها السعودية والإمارات، والحملات الممانعة ضدّها. مروراً بفوضى لبنان وتحلّل الدولة فيه.
اللافت أنّ ثمّة قاسماً مشتركاً في أرضية هذه المواقع كافّة. ألا وهو وجود “الإخوان المسلمين”. الحليف التاريخي لنظام الملالي. منذ الكلام عن عرض “الإخوان” على الخميني مبايعته “خليفة للمسلمين” سنة 1979، وصولاً إلى وصف الخامنئي لركوب “الإخوان” موجة الربيع العربي، في تونس ومصر وليبيا بداية، بأنّه “صحوة إسلامية ستغيّر تاريخ الأمّة”.
وهو ما يفسّر هذا القلق الناشئ في المنطقة العربية من تحضيرات طهران لما بعد حرب غزة.
وهو ما بدأت تدابيره الاستباقية تظهر في أكثر من مكان وملفّ. وأبرزها التطوّرات التالية:
– أوّلاً، هذا الحرص الخليجي، والسعودي تحديداً، على استيعاب النظام الإيراني من جهة، كما على السعي بقوة إلى إقناع واشنطن بالضغط الحاسم على نتانياهو، لإطلاق مسار حلّ الدولتين.
وفي خلفيّة هذه المحاولة قناعة دقيقة بأنّ ما بعد غزة نظريّاً سيناريو من ثلاثة: إمّا زوال الكيان. وهذا “مؤجّل” إيرانياً. وإمّا بداية قيام دولة فلسطين وفق مشروع السلام العربي. وإمّا نذائر ثورة الفوضى الملاليّة – الإخوانيّة في بلدان المنطقة.
– ثانياً، ظاهرة تبادل الاتّهامات الإيرانية السورية الأخيرة. خصوصاً على خلفية موجة الاغتيالات الصهيونية لأهداف إيرانية في سوريا. والمقصود بهذه الاتّهامات ليس مجرّد استنادها إلى شبهات تعاونٍ أمنيّ أو مخابراتيّ أو خروق إسرائيلية بشرية أو تكنولوجية في سوريا، بل الأساس هو هذه الخشية المتبادلة من أن يؤدّي التحالف الملاليّ – الإخواني المقبل إلى نيّة طهران تغيير ما للسلطة حتى في دمشق نفسها، بما يعزّز مكوّنها الإخواني. وهو السبب العميق للحذر المكتوم بين البلدين. وهو ما تزكّيه سلسلة من خطوات التقارب السوري الخليجي، خصوصاً مع الرياض وأبو ظبي.
– ثالثاً، وصول هذه النزعة الاستباقية إلى بيروت. حيث يُحكى أنّ المسعى الخليجي عبر الخماسية، لانتخاب رئيس للجمهورية بمعزل عن أحداث غزة، يهدف في ما يهدف، إلى تحصين لبنان حيال أيّ زعزعة مقبلة من هذا النوع. ويُحكى أنّ هذا ما يدركه الحزب أيضاً. وبدأ يعكسه بكلام عن أنّ الرئاسة ما بعد ما بعد غزة، وعن تريّث في حسم خياراته الرئاسية، حتى تلك التي كان قد أعلن عنها، على خلفيّة تموضع سليمان فرنجية بين الأسد وخامنئي، إذا ما تباعدا، وعن حصّة من تكون أكبر في “رئاسته” المفترضة.
الخطورة القصوى في هذا المشهد تكمن في غياب أو تغييب أو تغيّب الدولة اللبنانية عنه بالكامل. فيما نجيب ميقاتي، بعد أداء سويّ سليم ودقيق، طوال المئة يوم الأولى من الحرب، سقط فجأة في التنظير لوحدة الساحات، أي لفوضى ما بعد غزة، وكاد يطلب من اللبنانيين شكره على ذلك.
ما الحلّ؟ فضلاً عن وعي لبنانيّ مفقود، يبقى الحلّ تكراراً، في مشروع فلسطين الفلسطينية العربية الإنسانية، الثي يثور لها شباب العالم كافّة، لا فلسطين الإخوانية الملاليّة، ولا فلسطين “الوحدة البلديّة” تحت الاحتلال الصهيوني.