تجتمع اللجنة الخماسيّة المكلّفة معالجة موضوع غياب رئيس للجمهوريّة في لبنان أو لا تجتمع. تذهب اللجنة، ممثّلة بسفرائها في بيروت، لعقد لقاء مع هذا المسؤول اللبناني أو ذاك، ليست لذلك أيّ أهمّيّة استثنائية. ثمّة حلقة مفقودة على الصعيد اللبناني اسمها الاحتلال الإيراني المصرّ على جعل انتخاب رئيس للجمهوريّة اللبنانية مسألة ثانويّة يمكن أن تنتظر طويلاً، أي انتهاء حرب غزة أو التوقيت الذي تحدّده طهران.
المهمّ ما يريده الاحتلال الإيراني الذي لا يوجد من يردعه لبنانيّاً ويقول في وجهه إنّ لبنان، بأكثريّة أبنائه من كلّ الطوائف والمناطق، يرفضه مثلما رفض في الماضي الوصاية السوريّة وعبّر عن ذلك، بالفم الملآن، في 14 آذار 2005.
ثمّة حلقة مفقودة على الصعيد اللبناني اسمها الاحتلال الإيراني المصرّ على جعل انتخاب رئيس للجمهوريّة اللبنانية مسألة ثانويّة يمكن أن تنتظر طويلاً، أي انتهاء حرب غزة أو التوقيت الذي تحدّده طهران
دخل لبنان حرب غزة غصباً عنه. لا مصلحة لديه في دخول تلك الحرب بأيّ شكل، خصوصاً بوجود أجندة إيرانية واضحة كلّ الوضوح مستوحاة من تلك الحرب التي يتبيّن في كلّ يوم أنّ “الجمهوريّة الإسلاميّة” لم تكن بعيدة عنها يوماً. تقوم هذه الأجندة على أنّ “الجمهوريّة الإسلاميّة” باتت القوّة المهيمنة في المنطقة وباتت تتحكّم بمصير العراق وسوريا ولبنان واليمن. يشمل ذلك في طبيعة الحال الملاحة في البحر الأحمر، أي الطريق البحريّة المؤدّية إلى قناة السويس التي تمرّ فيها نسبة 40 في المئة من التجارة بين آسيا وأوروبا.
ليس طبيعياً بقاء “الجمهوريّة الإسلاميّة” خارج اللجنة الخماسيّة من وجهة نظرها، لا لشيء إلّا لأنّ إيران تمتلك مفتاح رئاسة الجمهوريّة اللبنانيّة مثلما تمتلك قرار السلم والحرب لبنانيّاً. أثبتت ذلك بالفعل عندما فرضت ميشال عون رئيساً للجمهوريّة في 31 تشرين الأوّل 2016 بعد فراغ استمرّ سنتين وخمسة أشهر. يبدو أنّ المشهد ذاته يتكرّر حالياً مع فارق أنّ لبنان في حال حرب، لا تزال على نار هادئة مع إسرائيل، علماً أنّه يمكن لهذه الحرب أن تتطوّر نحو الأسوأ ومزيد من الدمار مستقبلاً.
التنسيق السعوديّ الإيرانيّ لا يكفي
ليس كافياً انعقاد اجتماع بين السفيرين السعودي والإيراني في لبنان كي تصبح إيران جزءاً من اللجنة الخماسيّة. المؤسف أنّ تجارب الماضي القريب تكشف أنّ “الجمهوريّة الإسلاميّة” مصرّة، بفضل أداتها المسمّاة الحزب، على ممارسة دور مؤثّر أكبر بكثير ممّا يريده الآخرون، بمن في ذلك الولايات المتحدة وفرنسا والدول العربية الثلاث في اللجنة الخماسيّة.
لا مفرّ من الاعتراف بأنّ إيران استطاعت استغلال حرب غزّة أفضل استغلال لإثبات أنّها اللاعب الأساسي والمحوري في الإقليم، خصوصاً بعدما استطاعت إقامة كيان تابع لها في اليمن مدجّجٍ بالصواريخ الباليستية والمسيّرات في شبه الجزيرة العربيّة.
يتعامل العالم مع موازين القوى وليس مع التمنّيات. أثبتت موازين القوى منذ قيام “الجمهوريّة الإسلاميّة” في إيران في عام 1979 أن لا رغبة أميركيّة حقيقيّة في خوض أيّ مواجهة جدّيّة مع النظام الذي خلَف نظام الشاه. لم توجد في أيّ يوم استراتيجية أميركية في ما يخصّ التعاطي مع إيران. دفع لبنان غالياً ثمن ذلك ولا يزال يدفع.
دخل لبنان حرب غزة غصباً عنه. لا مصلحة لديه في دخول تلك الحرب بأيّ شكل، خصوصاً بوجود أجندة إيرانية واضحة كلّ الوضوح مستوحاة من تلك الحرب التي يتبيّن في كلّ يوم أنّ “الجمهوريّة الإسلاميّة” لم تكن بعيدة عنها يوماً
إيران طردت أميركا وفرنسا من لبنان
لا حاجة في طبيعة الحال إلى سرد للتفاصيل والتوقّف عند محطّات مهمّة مثل تفجير السفارة الأميركية في عين المريسة في نيسان 1983 في وقت كان هناك اجتماع لكبار مسؤولي وكالة الاستخبارات المركزيّة (سي. آي. إي) في دول المنطقة. قضى هؤلاء وقضى معهم المسؤول عنهم بوب إيمز الذي كان أحد أهمّ الخبراء الأميركيين في شؤون الشرق الأوسط والخليج، بما في ذلك اليمن. كان بوب إيمز أوّل مسؤول أميركي يقيم علاقة مع منظمة التحرير الفلسطينية. فعل ذلك عبر “أبي حسن” (علي سلامة) الذي كان بين أبرز مساعدي ياسر عرفات والذي ما لبثت إسرائيل أن اغتالته في بيروت. كذلك، لا حاجة إلى العودة بالذاكرة إلى كيفية طرد إيران للوجود العسكري الأميركي في لبنان ومعه الوجود الفرنسي. كان ذلك في 23 تشرين الأول من عام 1983 أيضاً عند تفجير قاعدة المارينز قرب مطار بيروت (نحو 250 قتيلاً بين العسكريين الأميركيين) والقاعدة العسكرية الفرنسية (دراكار) التي قضى فيها 58 عسكريّاً. لم تُخرج “الجمهوريّة الإسلاميّة” أميركا وفرنسا عسكرياً من الباب الواسع كي تكون لهما عودة إلى البلد من الشبّاك يوماً. لا شبّاك اللجنة الخماسيّة ولا غيره.
متى تتوقّف الولايات المتحدة عن مراعاة إيران ومسايرتها، حتى يصح الحديث عن دور اللّجنة الخماسية وملء الفراغ في الرئاسة اللبنانيّة. الواضح، أقلّه إلى الآن، أنّ الرئيس الأميركي جو بايدن لا يفعل غير طمأنة “الجمهوريّة الإسلاميّة” إلى رغبته في تفادي أيّ حرب معها. كرّر ذلك في أعقاب الهجوم الأخير الذي استهدف موقعاً عسكرياً أميركياً قرب الحدود الأردنيّة – السوريّة. قُتل ثلاثة عسكريين أميركيين في ذلك الهجوم، بعدما أكّد أمس أنّه قرّر كيف سيردّ، لكنّه “لا يريد توسعة الحرب”.
أكثر من أيّ وقت، تبدو إيران حاضرة لبنانياً. لم تتخلّص من رفيق الحريري، بالطريقة التي تخلّصت بها منه قبل 19 عاماً، كي يستعيد لبنان عافيته وتبقى بيروت مدينة مزدهرة منفتحة على العالم الحضاري وإحدى منارات الشرق الأوسط ورمزاً لثقافة الحياة. قامت بكلّ ما قامت به وفرضت على لبنان دخول حرب غزّة لتقول إنّ لبنان ورقة إيرانيّة وأن لا مستقبل للجنة خماسيّة، ما لم تتحوّل إلى لجنة سداسيّة، لا أكثر ولا أقلّ، ما دامت موازين القوى على الصعيد الإقليمي على حالها… وما دامت الإدارات الأميركية المتلاحقة لا همّ لها، باستثناء إدارة دونالد ترامب ربّما وفي حدود ضيّقة، غير استرضاء “الجمهوريّة الإسلاميّة” وتنفيذ رغباتها!