مرّت ذكرى 13 نيسان. لا يزال شبح بوسطة عين الرمّانة مخيّماً على الحياة السياسيّة اللبنانيّة. ولا يزال اللبنانيون في خصام مع المنطق. لا يزال اللبنانيون في بوسطة عين الرمّانة. انتقل البلد في نصف قرن إلا سنة واحدة، على نحو تدريجي ومدروس بدقّة، من المارونيّة السياسيّة إلى الشيعية السياسيّة. في أيّامنا هذه، لا يتصرّف بلد طبيعي بالطريقة التي يتصرّف بها ما بقي من مؤسّسات في الدولة اللبنانيّة التي كانت في الماضي دولة محترمة. قبل حرب غزّة وبعدها، لم يتغيّر شيء في لبنان بما يمكّنه من التعاطي مع أوضاع إقليميّة تزداد تعقيداً يومياً، خصوصاً في ضوء خطف “الجمهوريّة الإسلاميّة” في إيران حرب غزّة ودخولها في مواجهة مباشرة مع إسرائيل.
كيف الخروج من البوسطة؟
في نيسان من العام الماضي، قبل اندلاع حرب غزة التي ستغيّر المنطقة كلّيّاً. رفعت وزارة الخارجية باسم لبنان شكوى لدى مجلس الأمن على إسرائيل ردّاً على إطلاق “حماس”، بغطاء من الحزب، ما يزيد على ثلاثين صاروخاً من جنوب لبنان في اتجاه مستوطنات إسرائيليّة. كيف لحكومة لبنانية أن تُتبع إطلاق مثل هذه الصواريخ بشكوى إلى مجلس الأمن بدل الاعتراف بأنّ هناك خللاً في تطبيق القرار 1701 يتحمّل لبنان مسؤوليّته. مثل هذه العقليّة، التي تعكس هرباً من الحقيقة والواقع. ما زالت هي السائدة ولن تمكّن لبنان من الخروج يوماً من بوسطة عين الرمّانة.
في نيسان من العام الماضي رفعت وزارة الخارجية باسم لبنان شكوى لدى مجلس الأمن
أوقف القرار الصادر عن مجلس الأمن حرب صيف عام 2006. وهي حرب افتعلها الحزب مع إسرائيل وكانت جزءاً من سيناريو تغطية جريمة اغتيال رفيق الحريري وما تلاها من أحداث واغتيالات، بما في ذلك خروج الجيش السوري من لبنان. أسفرت تلك الحرب عن انتصار ساحق حقّقه الحزب على لبنان واللبنانيين. كرّست تلك الحرب واقعاً يرفضه اللبنانيون بأكثريّتهم. ليس إطلاق “حماس”، قبل عام، صواريخها من منطقة يعرف الحزب كلّ شاردة وواردة عمّا يدور فيها. وهي منطقة عمليات للقوّات الدوليّة والجيش اللبناني وحدهما، سوى تكريس لواقع يرفض اللبنانيون الاعتراف به. واقع يتمثّل في أنّ الحرب التي اندلعت في 13 نيسان 1975 ما زالت مستمرّة في 13 نيسان من هذه السنة.
من الواضح أنّ لبنان فقدَ أيّ علاقة بالمنطق. ليس معروفاً هل يمكن أن يتصالح معه يوماً، بل إنّ ذلك بات من رابع المستحيلات. يحتاج التصالح مع المنطق إلى مقدار كبير من الشجاعة. شجاعة وقوف كلّ لبناني أمام المرآة وسؤال نفسه: لماذا هذا الإصرار على التحرّش عسكرياً بإسرائيل على الرغم من أنّ نتائج هذا التحرّش معروفة قبل حرب غزّة وبعدها وقبل بدء الحرب الإيرانيّة – الإسرائيليّة وبعدها؟ لن يقف أيّ لبناني أمام المرآة ويسأل نفسه أيّ سؤال مرتبط بالواقع، بما في ذلك لماذا لم تحتلّ إسرائيل أيّ أرض لبنانيّة في حرب عام 1967؟ ألا يعود ذلك إلى أنّ لبنان لم يشارك في تلك الحرب التي انتهت باحتلال إسرائيل للضفّة الغربيّة والقدس والجولان وسيناء؟
أين الدولة اللبنانية؟
لم يكن لبنان، الذي وقّع اتّفاق القاهرة وأطاح اتّفاق الهدنة مع إسرائيل، بلداً طبيعياً لدى انفجار الوضع فيه. هل توجد حالياً دولة لبنانيّة كي يمكن الحديث عن العودة إلى اتفاق الهدنة. وهو اتفاق بين دولتين عضوين في الأمم المتحدة… أم كلّ ما في الأمر استفاقة متأخّرة على اتّفاق الهدنة تعوّض عن كلّ التقصير في استيعاب الواقع المتمثّل في أنّ إيران تتحكّم بقرار السلم والحرب على الصعيد اللبناني وبكلّ شاردة وواردة في البلد؟
لا يزال لبنان يدفع إلى اليوم ضريبة المحافظة على أرضه في عام 1967 يعود ذلك إلى صفة الجبن التي يتمتّع بها سياسيّوه
لا يزال لبنان يدفع إلى اليوم ضريبة المحافظة على أرضه في عام 1967. يعود ذلك إلى صفة الجبن التي يتمتّع بها سياسيّوه العاجزون عن الاعتراف بأن لا سبيل لتحرير فلسطين انطلاقاً من لبنان ولا سبيل لدعم غزّة انطلاقاً من لبنان، فيما الجيش في موقف المتفرّج. هؤلاء السياسيون في خصام مع المنطق. ليس بينهم من يجرؤ على إدانة إطلاق صواريخ من جنوب لبنان. ليس بينهم، بمن في ذلك الأمين العامّ للحزب، من يستطيع الخروج من أسر الزاوية الضيّقة التي حشر نفسه فيها.
لا همّ لديه في الوقت الحاضر سوى تأكيد أنّ الاتّفاق السعودي – الإيراني الذي رعته الصين، قبل سنة وشهر، لن تكون له أيّ انعكاسات على لبنان. بل إنّ هذه الانعكاسات ستبقى محصورة باليمن وباستئناف العلاقات الدبلوماسيّة بين الرياض وطهران. وحدها الأيّام ستُظهر ما إذا كان هذا الكلام صحيحاً أم لا… أم أنّ “الجمهوريّة الإسلاميّة” تستطيع أن تأخذ من الاتفاق ما يناسبها فقط وكأنّ الأمر يتعلّق بلائحة طعام في مطعم يختار منها الزبون ما يعجب خاطره!
لا يزال لبنان في 13 نيسان 1975… لا يزال شبح بوسطة عين الرمّانة مخيّماً على الحياة السياسيّة اللبنانيّة. ولا يزال اللبنانيون في خصام مع المنطق. انتقل البلد في أقلّ من نصف قرن من المارونيّة السياسيّة إلى الشيعية السياسيّة. تخلّلت ذلك استراحة قصيرة، بين 1992 و1998، تصعب تسميتها بالسنّيّة السياسيّة. انتقل عمليّاً من السيّئ، نسبياً، إلى الأسوأ. مع الاحتلال الإيراني الذي يشمل لبنان كلّه والذي جاء بـ”حماس” إلى المخيّمات الفلسطينية وإلى جنوب لبنان الذي يسيطر عليه الحزب بالكامل. بات ممكناً الترحّم على اتّفاق الهدنة الذي صار من الماضي البعيد جدّاً… وهو ماضٍ تستحيل استعادته بأيّ شكل للأسف الشديد.