“ألقت الأجهزة الأمنية القبض على المدعو م. خ. في منزل والديه في جونيه – كسروان. وبالتحقيق معه اعترف أنّه هو من أطلق النار على مقرّ السفارة الإيرانية في ضاحية بيروت الجنوبية، من بندقية إم 16. أمّا دوافعه فهي أنّ حرس السفارة منعوه قبل أشهر من المرور أمام المبنى مستقلّاً “توك توكه”، بشكل زجري مهين وبعنف لفظي كبير.
هل يمكن ذات يوم قراءة خبر كهذا؟ مستحيل؟ لماذا برأيكم؟”.
هكذا علّق على رواية ديليفري عوكر أحد الناشطين من خصوم الحزب، القائلين بأنّ المطلوب ليس نزع سلاحه، بل الانفصال الكامل والرسمي عن “دولته”.
تعليقٌ يبدو منسجماً مع هذا النوع من التفكير “الانفصالي الانعزالي التقسيمي المتقوقع الطائفي العنصري التمييزي النمطي المَرَضي البغيض المقيت”.
لكن ماذا عن حلفاء الحزب؟ وما حقيقة موقفهم العميق من هذه الإشكالية بالذات؟
*****************************
حادث إطلاق النار على السفارة الأميركية في عوكر، على الرغم ممّا انتهى إليه من نتائج رسمية، أو ربّما نتيجة تلك الرواية الأمنيّة التبسيطية عن الحادثة، أعاد إشعال السجال السوشيل ميدياويّ حول إشكالية الدولة والحزب.
يفكّر البعض سرّاً أنّ “الفكرة اللبنانية”، أو مشروع لبنان الحياة المعيوشة يوميّاً معاً، لإنتاج “لبنانية” ما، ولخلق مسيحي لبناني، ومسلم لبناني، ومواطن لبناني… هذا المشروع قد فشل وسقط، وأنّه لا بدّ من البحث عن بديل له تدريجياً
بات للحزب “خصوم كلّيّانيون” أو شموليون دوغماتيون في خصومتهم له. والمفارقة أنّهم منسجمون مع أنفسهم تماماً. وإن كانوا ربّما مختلفين أو حتى متناقضين مع مسلّمات وبديهيّات ومرجعيّات أخرى كثيرة. لسان حالهم أنّ رصاصات عوكر، مع رواية الديليفري، جاءت لتؤكّد لهم مجدّداً أنّ الحزب استكمل وأنجز بناء بيئة سوسيولوجية شاملة يستحيل العيش معها في صيغة كيانية واحدة. وبرأيهم أنّ رافضي هذه الكيانية الحزبلّاهيّة يضمّون أكثرية لبنانية من كلّ الطوائف. وبينهم شيعة كثيرون وفاعلون ومسموعو الصوت.
باختصار، الحلّ لدى هؤلاء بالدعوة إلى انفصالية سيادية لبنانية. وهو ما بدأ يظهر في كتابات ومنشورات، داخل لبنان وخارجه.
في المقابل، هناك حلفاء الحزب. هؤلاء الذين يسكتون غالباً، أو يتكلّمون بالتوريات والكلام الذي لا يقول شيئاً. أو يحرفون النظر والتركيز صوب سطحيات أخرى.
آخر مقولاتهم اليوم أنّ أولوية الأولويّات تحقيق اللامركزية. لكن ما هي الأسباب الموجبة لهذا الطرح في لبنان حالياً وبشكل صريح، بلا دجل ورياء؟
في عالمنا المعاصر لم يعد طرح اللامركزية منطلقاً من زجليّات تسهيل الحصول على إخراج قيد لابن عكّار أو سجلّ عدلي لابن مرجعيون. ففي زمن المكننة و”الأتمتة” وثورة الاتصالات، أسباب كهذه تشكّل تخلّفاً مطلقاً.
العالم يتّجه للتجميع.. لا التوزيع
إنّ النقاش العالمي الراهن غير محسوم حول أيّ من الاتجاهين أفضل على مستوى تنظيم الدول، المركزية أو عكسها. لكنّ الأكيد أنّ مفهوم تشتيت السكّان المتمادي، على وحدات صغيرة فأصغر، أثبت فشله عالمياً. والاتجاه بات نحو التجميع لا التوزيع.
تكفي مقارنة عالمية سريعة لتؤكّد أنّ عدد البلديّات (أو وحدات السلطة المحليّة) في معظم الدول المتقدّمة يتّجه نحو الانخفاض لا الزيادة، لأسباب ماليّة وإدارية وبيروقراطية وفساديّة وزبائنية معروفة. وإن لم يعنِ ذلك إلغاء فكرة السلطات المحلّية أو نهايتها إطلاقاً.
اللامركزية في عالم اليوم محصورة بهدفين اثنين: إمّا دوافع تنموية، وإمّا اعتبارات الحفاظ على الهويّة الذاتية الخاصّة لمجموعة من السكّان.
في لبنان، لطالما همس بعض “اللامركزيين” كلاماً عن الدافعين الاثنين، وهو ما يقتضي التدقيق فيهما.
تنموياً أوّلاً، يقدّم هؤلاء أسباباً موجبة كثيرة كلّها تتركّز على عنوان فساد الإدارة المركزية وفشلها. لكنّ التدقيق في هذا الجانب يُظهر أنّ سببه هو زبائنية حكّام الدولة، لا مركزية تنظيمها، بدليل أنّ البلديات هي من أكبر قطاعات الفساد في الدولة اللبنانية. ولم تنجح سيطرة القوى الحزبية عليها في معالجة فسادها طبعاً. بل على العكس أدّت إلى حماية فسادها وفاسديها. وهو ما يعني أنّ لامركزية أكبر، في ظلّ هذا النظام وهؤلاء المسؤولين، ستعني حتماً فساداً أكبر وزبائنية أخطر ومنظومة سلطة أقوى وأسوأ.
حادث إطلاق النار على السفارة الأميركية في عوكر، على الرغم ممّا انتهى إليه من نتائج رسمية، أو ربّما نتيجة تلك الرواية الأمنيّة التبسيطية عن الحادثة، أعاد إشعال السجال السوشيل ميدياويّ حول إشكالية الدولة والحزب
لكنّ حجّة هؤلاء السرّية لتسويق طرحهم لدى ناسهم، هو ما يهمسونه ويسرّبونه خفيةً، من لوائح وجداول، للدلالة على لاعدالة التوزيع في الحقوق والواجبات، بين مناطق لبنانية مختلفة: نسب جباية الكهرباء، عائدات صندوق الضمان الاجتماعي مقابل تقديماته في الفروع المختلفة، المدارس الرسمية بطلّابها وأساتذتها وأموالها، موازنات المستشفيات الحكومية، وغيرها من الأرقام التي يحاول هؤلاء عبرها القول سرّاً: “نحن من يدفع واجباته للدولة ولا نستفيد من حقوقنا عليها. وهم لا يدفعون ويأخذون”.
هكذا يبدو شعار التنمية في الحقيقة والعمق لدى هؤلاء، مجرّد غطاء لثنائية “نحن وهُم”.
الهويّة والبحر والمشروبات والأسماء
أمّا لجهة إشكالية الهويّة، كسببٍ موجب لطرح اللامركزية، فالمسألة هنا أكثر حساسيّة ودجلاً.
يهمس بعض هؤلاء أنّ هدفهم من اللامركزية هو الحفاظ على “هويّة ثقافية وحضارية” خاصة بمناطقهم. ويعطون أمثلة يومية لا تنتهي:
– المشروبات الروحية في الأماكن العامّة.
– ثياب البحر.
– إطلاق البلديات لأسماء معيّنة على الشوارع والأحياء والجادّات.
– انخراط البلديّات كسلطات محلية في مناسبات دينية، احتفالاً أو تنظيماً أو توجيهاً أو حتى تقريراً، وصولاً حتى البيوعات العقارية وهويّات المستأجرين.
– وسوى ذلك من عشرات الأمثلة التي يُراد منها الإيحاء بأنّه لم يعد العيش ممكناً في إدارة دولتية واحدة. وبالتالي إذا كنّا عاجزين عن اقتطاع حصّتنا من هذه الإدارة على مستوى القرار المركزي، فلنقتطع ما أمكننا اقتطاعه على مستوى حياتنا اليومية.
لكن بصراحةٍ لا يجرؤ عليها هؤلاء. من المقصود بكلام كهذا؟ هل هو وليد جنبلاط في مناطق زعامته مثلاً؟ أو ما بقي من حضور لزعامة حريرية في مجمل لبنان؟ أو المقصود كريم كبارة أو فيصل كرامي في طرابلس، أو أسامة سعد أو البزري في صيدا؟
يكمن الرياء في كلام هذه الفئة من “اللامركزيين” في أنّهم يقصدون الحزب تحديداً وحصراً. فهم يعتبرونه القوة الوحيدة القادرة على فرض مفهومه الخاص للدولة في مناطق سيطرته وبيئته، فيما هم يعيشون إزاء قناعتهم المكتومة والمكبوتة هذه، حالة سكيزوفرينيا سياسية كاملة. فهم يريدون التحالف مع الحزب، ليضمن لهم سلطتهم السياسية على مستوى الدولة المركزية، وفق نظرية “الذمّية السياسية”، أو الاستقواء بالآخر لحكم ما تيسّر. وفي الوقت نفسه، يريدون الإيحاء لناسهم بأنّهم مختلفون مع الحزب ومعترضون على سلوكياته لا بل معارضون لسياسته. ولذلك يريدون انتزاع اللامركزية منه الآن بالذات، ليحفظوا لرعاياهم المضلَّلين هويّتهم الخائفة والمذعورة وخصوصياتهم الكيانية المهدَّدة.
الدجل الوطنيّ والانتهازيّة السياسيّة
هذه المعادلة هي عمق ما يُحكى اليوم عن مقايضة رئاسة جمهورية فارغة أو مفرّغة، برئاسة بضع بلديات فاسدة.
هنا تكمن لجّة الدجل الوطني والانتهازية السياسية. فإذا كنتم تعتقدون أنّ هناك استحالة لبناء دولة، أو حتى للحياة مع الحزب، فكيف تتحالفون معه نيابياً وحكومياً وتسلّمونه رئاسة الجمهورية؟
وإذا لم يكن هذا تفكيركم العميق، فما هو حلّكم اللامركزي لبلدية حارة حريك المسيحية، لمجرّد المثال؟
في مكان ما، يفكّر البعض سرّاً أنّ “الفكرة اللبنانية”، أو مشروع لبنان الحياة المعيوشة يوميّاً معاً، لإنتاج “لبنانية” ما، ولخلق مسيحي لبناني، ومسلم لبناني، ومواطن لبناني… هذا المشروع قد فشل وسقط، وأنّه لا بدّ من البحث عن بديل له تدريجياً، بدايةً بالتحايل على الذات وعلى الحزب وعلى الداخل والخارج، انطلاقاً من تحويل الدولة الحالية إلى نظام تعايش أو تساكن تجاوري، على حدود الطوائف لا أكثر، على أمل أن تتطوّر هذه المساكنة وتتقدّم لاحقاً، حسب الظروف وموازين القوى.
أمّا أساس لبنان الفكرة والمشروع و”الرسالة” فقضية أخرى. وهي التي قال عنها الرائع الراحل ميشال حايك إنّها قضية كبيرة حملها أشخاص صغار، فأسقطوها وأسقطتهم. لكن هل قُضي الأمر؟
طبعاً لا. فلنتابع البحث…