قرأت في مجلة “لندن ريفيو أوف بوكس” مقالةً نادرةً لجوديت تاكر في التشابه أو عدم التشابه بين حرب أوكرانيا وحرب غزة، وعن المقارنة بين العنف الفلسطيني والعنف الإسرائيلي. وقد اعتبرتُ المقالة نادرة لأنّ الحالة معكوسة في الحربين:
– فالروس يغزون في عام 2014 وعام 2021 جزيرة القرم وإقليمين في شرق أوكرانيا باعتبارها جزءاً من الوطن القومي الروسي والحجة أنّ في تلك الأقاليم كثرة من المتحدثين بالروسية أو ذوي الأصول الروسية.
– بينما في فلسطين يخرق حماسيّو غزة حصاراً مفروضاً على القطاع منذ عام 2008 ويغيرون على مستوطنات أُقيمت على أرضهم في محيط القطاع.
روسيا أقوى بالطبع من أوكرانيا، لكنّ المساعدات الأميركية والأوروبية الكبيرة تُحدث شيئاً من التوازن أو تمكّن أوكرانيا من الاستمرار في الحرب
وكما لا تشابه في بدء الحرب في الحالتين، كذلك لا تشابه في مجراها:
– الروس منذ عامين يحاربون على حدود المقاطعتين اللتين استولوا عليهما وقد صارت الحرب حرب جبهات تقريباً، لأنّ الأوكرانيين ما تقدموا كثيراً في هجومهم المضاد.
– أما في الحرب على غزة فإنّ الجيش الإسرائيلي استعاد السيطرة على مستوطنات غلاف غزة، وهو منذ قرابة الأسبوعين يغير مئات الإغارات على غزة بالطائرات.
الروسي اعتبر أنه حقق هدفه وينتظر يأس الأوكرانيين والأطلسيين في حربهم والمجيء إلى طاولة التفاوض. أما الإسرائيليون فإنهم يقولون إنهم يريدون تدمير حماس نهائياً ولو أدى ذلك إلى تدمير القطاع ومدنه. وصلت أعداد القتلى إلى الخمسة آلاف، والجرحى إلى الخمسة عشر ألفاً، وانهدم ثلث مباني القطاع، وما دخلت المساعدات إلا يوم 22/10 وبالقطّارة.
وفي جدول المقارنات أيضاً:
– روسيا أقوى بالطبع من أوكرانيا، لكنّ المساعدات الأميركية والأوروبية الكبيرة تُحدث شيئاً من التوازن أو تمكّن أوكرانيا من الاستمرار في الحرب.
– في حين لا تتلقّى حماس مساعداتٍ عسكرية لا غربيّة ولا عربية رسميّة بالطبع، والمجتمع الدولي يعتبرها تنظيماً إرهابياً. في حين تتلقّى إسرائيل مساعدات عسكرية لا تحتاج إليها وبالأمس منحها الرئيس الأميركي جو بايدن 14 مليار دولار. فإسرائيل تعطلت فيها الدولة لتجنيد 400 ألف من القوى العاملة في المؤسسات وسائر القطاعات، لذلك تحتاج إلى سدّ الفجوة بحسب بايدن ووزير خارجيته أنطوني بلينكن. ليس هذا فقط، بل إنّ أميركا أرسلت حاملات طائرات إلى شرق البحر الأبيض المتوسط لتُرعب الذين قد يريدون التدخل في الحرب لمنع إبادة حماس وغزة. أما القادة الأوروبيون فقد عبّروا جميعاً عن تأييد إسرائيل وحقها في الدفاع عن نفسها، بيد أنّ أحداً منهم ما ذكر حقّ الفلسطينيين بحسب القرارات الدولية في الحصول على دولتهم المستقلة على أرض فلسطين.
ما شبّهت جوديت تاكر بصراحة هجوم حماس بهجوم الروس. لكنها عجبت لقدرة حماس على هذا الاختراق، وقدرتها المستمرة على توجيه الصواريخ إلى المدن الإسرائيلية بعد عشرة أيام على بدء الغارات على غزة.
غزّة و”العنف المتبادل”
المسألة الثانية التي تعرضت لها تاكر هي “العنف المتبادل”.
فالعنف يتعاظم بين الجانبين منذ عام 2008، وهي الحرب الرابعة أو الخامسة. وفي كل مرةٍ تتزايد قوة حماس الصاروخية، وتزداد غارات الطائرات عنفاً وإحداثاً للخسائر البشرية. وترى تاكر أن المستشفيات والمساجد التي تقصفها إسرائيل هي أهداف غير مشروعة، لأنّ الناس يلجأون إليها بداعي الأمان النسبي. فالعنف الإسرائيلي الهائل لا مسوِّغ له. إنما لماذا يحدث؟ وما هو تقدير السياسيين والعسكريين الذي يدفعهم إلى ذلك وإلى الغزو البرّي؟ هل صحيح أن هناك تهديداً وجودياً للدولة العبرية؟
بالطبع لا.
الآن، ليست حماس فقط والحزب والجهاد الإسلامي، بل سائر الشعوب العربية والإسلامية تلتفّ من حول فلسطين، وحماس تكتسب شعبيةً هائلة
لكنّ المهدَّد هو التفوق العسكري والأمني. والإسرائيليون يريدون إعادة بنائه في نفوس الإسرائيليين. لقد استطاعوا الوقوف في وجه تهديد الدول العربية، لكنّ حماساً ليست دولة، وكذلك الحزب. بيد أنّ إسرائيل والرئيسين الأميركيين، السابق دونالد ترامب، والحالي بايدن، ويتقدّمهما رئيس حكومة إسرائيل بنيامين نتانياهو، جمعوا جدار الوهم والأمن القائل: “نعمل تطبيعاً مع الدول العربية فتنتهي القضية الفلسطينية”!
فماذا جرى؟ هل خسرت حماس؟
الآن، ليست حماس فقط والحزب والجهاد الإسلامي، بل سائر الشعوب العربية والإسلامية تلتفّ من حول فلسطين، وحماس تكتسب شعبيةً هائلة. فماذا تستنتج جوديت تاكر؟
تستنتج أنه لا بد من التحول باتجاه السلام من طريق العودة إلى مفاوضات الدولة. وهناك سؤالان لا بدّ من طرحهما:
– هل يقبل الإسرائيليون والأميركيون المتحمسون الآن للإبادة؟
– ثم مع مَنْ؟
لا تعتبر جوديت “حماساً” شريكاً ملائماً. وما كان عنفها في الاختراق عنفاً مقبولاً بالنسبة إلى تحليلها. هو لا يقارن بالعنف الإسرائيلي طوال خمسةٍ وسبعين عاماً، لكنه كان أيضاً عنفاً أعمى، على ما تقول.
هنا لا بدّ من العودة إلى رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس. لكنه مُدمَّر، والذي دمَّره أعداء اتفاق أوسلو من الإسرائيليين والإيرانيين وحماس والحزب وحتى الجهاد الإسلامي. فلا ينبغي أن ننسى أنّ للسلام أعداءً هم في إسرائيل وإيران والتنظيمات الإسلامية، المسلَّحة وغير المسلّحة. هذه الموانع والحوائل أمام السلام واتفاقاته، يحتاج تحدّيها إلى “قيادات” في أميركا وإسرائيل والدول العربية. والأخيرة لم تُفصِح عن خطّتها في هذا المجال، إذا كان لديها خطّة. وهذا أمرٌ مخيف، لأنه يعني ليس فقط أنّ الحرب ستستمر، بل أنها ستتمدد على الرغم من حاملات الطائرات الأميركية.
العودة إلى الصراع الديني
إنّ المشهور عن تنظيمي القاعدة وداعش (على الرغم من تشددهما الإسلامي) أنهما لم يكونا مهتمين بفلسطين، ولم يقوما بأي عمليات ضد إسرائيل، على الرغم من دعاياتهما الكريهة ضد “اليهود”. اليوم ما استجدّ أنّ العامل الديني عاد إلى متن الصراع. فحماس تنظيم إسلامي، وكذلك الجهاد والحزب. وحملة وعملية حماس تحمل عنوان: “طوفان الأقصى”. والمعروف أنّ اليمين الديني ويمين المستوطنين هما اللذان يتحكمان بحكومة نتانياهو ويريدان إعادة بناء “هيكل سليمان” المزعوم الآن مكان المسجد الأقصى في القدس. لذلك بات هناك مسافة قصيرة بيننا وبين الحرب الدينية الشديدة الخطر على الدين والعمران والإنسان.
في التراث العربي القديم نوعٌ أدبي اسمه: “نصائح الملوك” أو “مرايا الأمراء”. وهو يتوجه بالنصيحة ورأسها الحكمة إلى أولياء الأمور بأن لا يخوضوا الحرب (وهذا عكس ما ينصح به التراث العربي والإسلامي في مسألتَي الشجاعة والجهاد)، لأنّ الحرب تتضمن مجازفاتٍ ومخاطر لا يمكن تقديرها مسبقاً مهما بلغ ذكاء المخططين. ولا شكّ أنّ هذه النصيحة التي فات أوانها فيما أحسب، كانت ضروريةً لحماس وللإسرائيليين. ولكلا الطرفين يوجَّه السؤال الآن: وماذا بعد دمار غزة؟!
توماس فريدمان في مقال ثالث بـ”نيويورك تايمز” يستغيث “بقيادية” جو بايدن غير الموجودة، وهو يسأل السؤال نفسه: “ماذا بعد هذا القتل والتدمير؟ ألا يجب الاتجاه إلى أفقٍ سياسيٍ تجاهلته أميركا وخضعت لليمين الإسرائيلي منذ عام 2000؟”!