كشفت ورشة الطوارئ التي دعا إليها النائب إيهاب مطر أخيراً للبحث في استجابة طرابلس لاحتمال النزوح الجنوبي، «عورات» مزمنة وأخرى مستجدة في عاصمة الشمال تجعلها تحتاج إلى الإغاثة قبل أن تتمكن من إغاثة غيرها بينما تغرق في مستنقع لا ينتهي من الفوضى والتخلّي الرسمي عنها ما يصيب مرافقها بالشلل ويزيد تداعياتها الاقتصادية، كما يدخل عنصر قلق جديد بسبب مشاركة مجموعة من شباب المدينة في جبهة الجنوب، بينما يتعمّق الفراغ السياسي وتغيب المبادرات القادرة على إحداث شيء من التوازن في الحياة العامة، لتصبح زيارة جبران باسيل إليها حدثاً جدلياً محدوداً رغم أنّها لم تحمل جديداً في السياسة.
يحاول النائب مطر في الآونة الأخيرة العمل على تحريك ملفات طرابلس الجامدة والعالقة وعلى ربط حركته بالأحداث الجارية على مستوى البلد، وتحديداً خطة الطوارئ الوطنية التي أعلنتها الحكومة ويتولى متابعتها وزير البيئة ياسين ناصر ياسين، فكانت الورشة التي نظمتها «مجموعة إيهاب مطر للتنمية» مناسبة للنظر في أحوال المدينة من زاوية قدرتها على استيعاب موجات النزوح المحتملة من الجنوب، فكشف النقاش المزيد من العوائق في مجال البنية التحتية والأمن الصحي والغذائي، كما اتضح عجز بلديات الفيحاء عن تأمين ما يلزم لمثل هذا الاحتمال، لأنّ الواقع الصحي في مدنها متدهور في الأساس، وقد انخفضت بشدة نسبة القادرين على الوصول إلى المستشفيات وبالتالي نسبة الذين يخسرون حياتهم وهم عاجزون عن التداوي.
تحتاج مراكز الرعاية الصحية الأولية في مدن الفيحاء إلى دعم وتطوير في التجهيزات لتمكينها من استيعاب الأعداد المتزايدة ممن أصبحوا خارج القدرة على تحصيل العلاج، كما يعاني فوج الإطفاء وكذلك الدفاع المدني من غياب الإمكانات بشكل متسارع وهذا يؤثِّر بطبيعة الحال على قدرتهما على الاستجابة للحالات الطارئة، وبات تحرّكهما مرتبطاً بخصوصية كل حالة وظروفها، بينما باتت خدمات البلديات شحيحة ونادرة وتعطي فكرة واضحة عن الخمول الذي يسود القطاع العام فيها… بينما تبقى محطة التكرير التي كلفت ملايين الدولارات معطلة وتبقى معها كارثة الصرف الصحي قائمة، وتعطيل المسلخ منذ سنوات.
مصدر القلق الإضافي الطارئ على طرابلس هو تداعيات مشاركة مجموعة من شبابها في جبهة الجنوب، وهذا يدفع للتساؤل عن مدى اتساع هذه الظاهرة وعن مدى إدراك القائمين بها أبعاد ما يفعلون، خاصة أنّ تحريك الفكرة القتالية لدى الشباب يمكن أن يؤدّي إلى صعوبة الانضباط وسهولة الاختراق، وهذا ما يجعل القلق يكبر من نتائج موجة الحماسة الحالية لحمل السلاح، خاصة أنّ جبهة الجنوب مضبوطة من قبل «حزب الله» لكنّ المساحة الداخلية السنية مفتوحة على الكثير من احتمالات المغامرة.
سبق لطرابلس خصوصاً ولبقية المناطق السنية أن عانت من تجارب شكّلت حقولاً خصبة للعبث بالشباب وتضليلهم واستغلال حماستهم للقضايا الإسلامية، لهذا ينبغي التوقف عند ما جرى في الجنوب بعد مقتل أحمد عوض وخلدون ميناوي والشابين التركيين بلال أوزتورك ويعقوب أردال برفقة القيادي الفلسطيني خليل حامد خزار الذي يبدو أنّه كان ينشط باعتباره عابراً للتنظيمات ويعمل خارج الدائرة المباشرة لحركة «حماس»، والنظر إلى تداعيات هذه المشاركة على الشباب.
شهدت الساحة السنية استقراراً ملحوظاً منذ ما يقارب العامين خاصة مع تطوّر نظرة الجيش اللبناني واعتماد قيادته سياسة الاستيعاب والحوار وتنفيس الاحتقان ورفع الغبن واعتماد المعايير القانونية الإيجابية لتسهيل عودة الكثير من الشباب إلى حياتهم الطبيعية… لكنّ ما جرى أخيراً أثار القلق لدى أوساط كثيرة ويستدعي مراجعة من الجميع لدعم الاستقرار الراهن ومنع عودة التوتر بسبب تشجيع أنشطة يُفترض أنّها أصبحت من الماضي.
أمّا زيارة النائب جبران باسيل إلى طرابلس، فهي حدث عادي لا يحمل أيّ أبعاد اسثتنائية، وهي كانت محضرة سلفاً لافتتاح شارع الدكتور يعقوب اللّبان في الميناء وجرى تأجيلها بعد عملية «طوفان الأقصى»، وقدّم باسيل خطاباً منفتحاً في الشكل من دون أن يقدِّم في المضمون ما يوحي بتغيير نهجه السياسي العام، لكن لا بُدّ من الإشارة إلى أنّ ترميم الشارع من قبل «التيار الوطني الحر» هو طريقة مختلفة في دخول طرابلس ومينائها تختلف عن دخولها في العام 2019 عندما جاءها برفقة عشرات العناصر العسكرية فكان نصيبه المقاطعة.
تمكنت «القوات اللبنانية» من كسر حواجز كبرى وحقّقت التمثيل النيابي الأول لها في طرابلس من خلال النائب الياس الخوري، بينما لم تتوسع دائرة قبول «التيار الوطني الحر» في طرابلس، وهذا ينبغي أنّ يكون موضع مراجعة لدى «التيار»، لكنّ «طرابلس مدينة لبنانية مفتوحة لكل المواطنين. وليس هناك اعتراض شعبي حقيقي على زيارة باسيل لطرابلس بحسب خلدون الشريف الذي يقول إنّه «شخصياً لا تزعجه زيارته التنموية في هذا الظرف، خاصة وانه جاء ليشهد ترميم مبان. ويا ليتنا رأينا من اعترضوا على زيارته أو من يقف خلفهم يدعون للتظاهر من أجل غزة وفلسطين».
من المناسب في هذا السياق فتح الباب على نقاش التنافس على الإنماء واندفاع نواب طرابلس وقواها السياسية للعمل على كسر هذا العجز المسيطر على مدينة كانت فيحاء ومدينة للعلم والعلماء.