ما من سوريالية أكبر من أن تنشغل البلاد في نهاية كلّ شهر بالتكهّنات حول سعر صيرفة الذي سيتمّ تحويل رواتب القطاع العام على أساسه. جوهر هذا النقاش أنّ مصرف لبنان فتح سلسلة رتب ورواتب “على حسابه”، ووضع يده على صلاحية تحديد رواتب موظفي الدولة.
بل إنّ المصرف المركزي حاول انتزاع صلاحية أخطر، وهي تحديد أسعار صرف لسحب الرواتب تتباين بين فئة وأخرى من موظّفي الدولة، حين حاول صرف رواتب القضاة على سعر 8,000 ليرة للدولار، ثمّ حين غضب موظّفو القطاع العام الآخرون من هذا التمييز لجأ إلى التفاف آخر، فاستخدم احتياطياته، أي أموال المودعين، لتقديم 40 مليون دولار لصندوق تعاضد القضاة، من باب أنّ هذا المبلغ تصريفٌ لمبلغ 60 مليار ليرة على سعر الصرف الرسمي السابق البالغ 1,500 ليرة للدولار… ليتولّى الصندوق تقديم “مساعدات” شهرية للقضاة بالدولار “الفريش”.
تدبير خطير كهذا قرّره حاكم مصرف لبنان رياض سلامة وحده، من دون قرار مجلس الوزراء، ومن دون موافقة مجلس النواب. ويمكن التساؤل هنا: لماذا لم توزّع الأربعون مليون دولار على الصناديق الضامنة، وأوّلها الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي؟ ولماذا لم تستفِد منها صناديق التعاضد الأخرى؟
ما من سوريالية أكبر من أن تنشغل البلاد في نهاية كلّ شهر بالتكهّنات حول سعر صيرفة الذي سيتمّ تحويل رواتب القطاع العام على أساسه. جوهر هذا النقاش أنّ مصرف لبنان فتح سلسلة رتب ورواتب “على حسابه”، ووضع يده على صلاحية تحديد رواتب موظفي الدولة
ليس الإشكال في استحقاق القضاة لهذا التدبير من عدمه، بل في الصلاحيات التي حازها مصرف لبنان خارج دوره الطبيعي، بفضل لعبة أسعار الصرف المتعدّدة، بالتجاوز على قانون النقد والتسليف.
أرانب سلامة وأسعاره
ثمّة وهم يعيش عليه اللبنانيون فحواه أنّ أرانب رياض سلامة وأسعار صرفه هي ما يلجم الانهيار الكامل للّيرة، على اعتبار أنّ هناك ما هو أسوأ من خسارة العملة 97% من قيمتها، وأنّ سلامة هو “الوحيد الذي يقوم بشيء ما لمنع الارتطام الكامل”. بكلام آخر: “لو أنّ سلامة لم يتدخّل بسياسة الأسعار المتعدّدة لكان ارتفاع الدولار بلا سقف”.
واقع الحال أنّ نظام أسعار الصرف المتعدّدة مغارة فساد كبرى تراكِم الأرباح للمحظيّين من خلال فرص الـ arbitrage (أي الاستفادة من فارق السعر بين سوقين، كما هو الحال بين سوق “صيرفة” والسوق الموازية مثلاً). سلامة نفسه لم ينكر أنّ سياسته أتاحت فرصة الربح السهل، لكنّه يزعم أنّه ضرر جانبي لا غنى عنه في مقابل الفوائد الأخرى الكبيرة المتمثّلة بلجم صعود الدولار من جهة، وتثبيت القوة الشرائية لرواتب القطاع العام من جهة أخرى.
بعد ثلاث سنوات على تطبيق تلك السياسات، يمكن الجزم أنّ أثرها السلبي كان أكبر من أيّة فوائد. لا يتوقّف الأمر على تبديد احتياطيات مصرف لبنان للتدخّل في سوق القطع، واستفادة المحظيّين ممّا يضخّه من عملة صعبة، بل إنّ هندسة التدخّل أحدثت اختلالات في سوق القطع وفي سوق السلع والخدمات.
في سوق القطع، كان مصرف لبنان في فترات كثيرة مضارباً كبيراً يضاف إلى جملة المضاربين. إذ إنّه كان يرفع الطلب على الدولار حين يتدخّل مشترياً من خلال شركات الصرافة التي كان متعاقداً معها لجمع الدولارات من السوق، كما حدث بين آب وأيلول الماضيَين.
ما بات خارج الشكّ أنّ تدخّل رياض سلامة في سوق القطع لا يخضع للاعتبارات الفنّية البحتة، بل يخضع لاعتباراته السياسية والقضائية. فترى الدولار ينخفض عشيّة الانتخابات ثمّ يطير مع تحرّك قضائي محلّي أو أوروبي ضدّه، أو ضدّ أحدٍ من أسرته أو معاونيه، ثمّ ينخفض لاعتبارات أخرى كما حدث في الليلة الماضية.
ليس الإشكال في استحقاق القضاة لهذا التدبير من عدمه، بل في الصلاحيات التي حازها مصرف لبنان خارج دوره الطبيعي، بفضل لعبة أسعار الصرف المتعدّدة، بالتجاوز على قانون النقد والتسليف
3 مليارات جمعها “الحاكم”
ما أمسى معروفاً أنّ مصرف لبنان جمع ثلاثة مليارات دولار العام الماضي عبر شركات الصرافة وتحويل الأموال، وأعاد ضخّها بسعر أقلّ عبر منصّة “صيرفة”. فعاد جزء منها إلى المضاربين والأفراد المحظيّين الذين يبيعونها للصرّافين بسعر السوق الموازية (السوداء)، فيما ذهب جزء آخر إلى التجّار لتمويل الاستيراد، فاستفادوا من سعر صرف مدعوم، في حين أنّهم باعوا سلعهم بسعر السوق.
يبرّر رياض سلامة ذلك بأنّه يمارس دور صانع السوق، ويجمع الدولارات من شركات تحويل الأموال وشركات الصيرفة قبل أن تتسرّب إلى البيوت أو إلى خارج الحدود. وفي هذا شيء من الحقيقة. لكنّ للحقيقة جزءاً آخر، وهو أنّ المشكلة التي يحلّها هو من أحدثها.
التعدّد الممنهج لأسعار الصرف هو المسبّب الأكبر للاختلال في سوق القطع الأجنبي. صحيح أنّ عجز ميزان المدفوعات يؤدّي إلى انخفاض سعر العملة الوطنية بطبيعة الحال، لكنّ تدهور الليرة في العامين الأخيرين أكبر من أن تفسّره الأساسيات المالية والاقتصادية.
حتى الأزمة المصرفية يغفل كثيرون أنّ الجزء الأكبر من مكوّناتها داخلي، بمعنى أنّ ثروات المودعين لم تتبخّر كلّها، بل انتقل ما لا يقلّ عن نصفها إلى فئات أخرى من مقترضين وسواهم. فيما الدائنون الخارجيون لا يشكّلون أكثر من 10% من الأزمة. وهذا ما يفسّر عودة النشاط الاقتصادي إلى طبيعته في بعض القطاعات، وهذا واضح في نشاط العديد من الشركات الكبرى التي سدّدت ديونها وتخفّفت من أثقال الفوائد.
أزمة الليرة طالت لسببين:
– الأوّل: عجز الدولة عن إصلاح ماليّتها وتوفير تمويل خارجي، ووقوعها في الحلقة المفرغة بين زيادة الأجور والتضخّم المفرط.
– والثاني: ليس إلّا الاختلالات التي صنعتها هندسة أسعار الصرف المتعدّدة.
أولى المعالجات وأكثرها إلحاحاً أن تنفّذ الحكومة ما التزمت به في الاتفاق مع صندوق النقد الدولي على مستوى الخبراء لجهة توحيد سعر الصرف، وأن تستعيد الحكومة دورها الذي سلبها إيّاه حاكم المصرف المركزي في إدارة ماليّة القطاع العام. فمن المعيب بحقّ رئيس الحكومة ووزير المالية وكلّ الوزراء أن يحدّد رئيس سلطة أخرى مقدار ما يصل إلى جيوب موظّفي الدولة مطلع كلّ شهر.