أحداث من التاريخ يمكنها أن تتشابه أو أن تتكرر، وإن بسياقات وظروف مختلفة. أواخر الثمانينيات وتمهيداً لوقف الحرب الأهلية والوصول إلى اتفاق الطائف، كانت لجان عربية عديدة سداسية، وخماسية وثلاثية.. تعمل وتنشط في سبيل إرساء وقف الحرب وإعلان الاتفاق. تغيرت وتبدلت كثيراً ظروف عمل تلك اللجان. وفي حينها، ما فرض الحل هو الغزو العراقي للكويت والحرب التي نشبت إثره. في حينها، كان الاتحاد السوفياتي في حالة السقوط، ولجأت سوريا بقيادة حافظ الأسد إلى إعادة التقارب مع الأميركيين، فشاركت إلى جانب الأميركيين في الحرب ضد العراق، ورست في لبنان تسوية ثلاثية، أميركية، سعودية، سورية، أنتجت الطائف وأوقفت الحرب.
سباق إلى المفاوضة
ولدت في حينها معادلات كثيرة، بينها الأرض مقابل السلام، والدخول في مرحلة جديدة على مستوى الشرق الأوسط، من مؤتمر مدريد أو اتفاق أوسلو وما بينهما وما تلاهما من أحداث. إلا أن لحظة الواقعية السياسية هي التي فرضت تقاطعات انتجت الحل في لبنان. وفي تلك الفترة عرض على الجنرال ميشال عون السير بالاتفاق والموافقة لكنه رفض، فكان منفاه.
بعض التشابهات تحصل في هذه الأيام، على وقع الحرب في غزة، وجبهة المساندة المفتوحة في لبنان، في مقابل طروحات عديدة للسلام، انطلاقاً من حل الدولتين أو الاعتراف بالدولة الفلسطينية، وفي ظل تشعب مسارات التفاوض مع الولايات المتحدة الأميركية، من قبل المملكة العربية السعودية من جهة، وإيران من جهة أخرى، بالإضافة إلى “معادلة إسرائيل الثابتة أميركياً”. يبدو المشهد وكأنه في حالة سباق بين الجهات المفاوضة حول من يصل إلى الاتفاق قبل الآخر.
مصير الخماسية
اللجنة الخماسية التي تنشط على الخط اللبناني حالياً، كانت لجنة ثلاثية قبل سنوات، تضم فرنسا، أميركا، والمملكة العربية السعودية، انضم إليها فيما بعد مصر وقطر. من الممكن لهذه اللجنة أن تتوسع لتشمل إيرانز ومن الممكن أن تنقبض لتنسحب منها دول وتدخل دول أخرى، فيما واقعياً هناك من يعتبر أن السيناريو الثلاثي قابل لأن يتكرر هذه المرة، بين الولايات المتحدة الأميركية، إيران، ودولة ثالثة يمكن أن تكون فرنسا، أو المملكة العربية السعودية أو دولة قطر. وذلك يتحدد وفق مسارات المنطقة والوجهة التي ستسلكها التطورات، لا سيما الحرب في غزة والتصعيد المستمر في جنوب لبنان.
ضمن هذا السياق، أصبح من الصعب الوصول إلى فصل بين هذه الملفات، وسط استمرار الضغوط الدولية لانتخاب رئيس للجمهورية في لبنان، وإعادة تشكيل السلطة، ربطاً بإعادة الاستقرار إلى الجنوب. وهذا لا بد أن يكون له أثمان سياسية من جهة، مقابل ضمانات بتثبيت الاستقرار.
معادلتان خارجية وداخلية
في ظل الضغوط الخارجية على اللبنانيين لإنتاج رئيس، تنتج معادلتان، الأولى خارجية لجهة التقاطعات بين عدد من الدول على مسار واحد. والثانية داخلية، تتركز على تقاطعات بين القوى اللبنانية المتعارضة، وسط استمرار الرهان لدى حزب الله والثنائي الشيعي على التقاطع مع جبران باسيل على خيار سليمان فرنجية، وأن لا يكرر تجربة عون في الثمانينيات، في مقابل منحه الضمانات المطلوبة. وبحال حصل ذلك، سيكون من السهل على وليد جنبلاط السير باتجاه خيار فرنجية أيضاً، بحال توفرت الظروف الإقليمية والداخلية لذلك.
على صعيد الخماسية، هناك من يشير إلى أن الولايات المتحدة الأميركية تتعاطى بكل واقعية، وهي لا تضع شروطاً ولا مواصفات تتصل برئيس الجمهورية، إنما الاهتمام الأساسي هو ببنود استراتيجية تتعلق بالوضع في الجنوب والاستقرار. في المقابل، تنقل المعلومات عن تمسك إيراني بدعم خيار الثنائي الشيعي في لبنان، أي دعم خيار سليمان فرنجية والعمل على هذا الصعيد. وهو ما تم إبلاغه لجهات عديدة إقليمية ودولية، ولا سيما على طاولة المفاوضات الإيرانية الأميركية في سلطنة عمان. أما فرنسا ففي الأساس كانت مؤيدة لسليمان فرنجية، وبحال استمر التعقيد، فلن تكون قادرة على الاستمرار في المعارضة، إنما ستجد نفسها مضطرة للسير في سياق أي تسوية يتم العمل على إنتاجها.
اتصال ماكرون وزيارة لودريان
في هذا السياق، برز تطوران، الأول اتصال الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، وتم البحث في الملف اللبناني إلى جانب ملفات أخرى، أهمها الحرب على غزة. وحسب ما تقول المعلومات، فإن ماكرون اختار توقيت الاتصال ليكون قبيل الاستعداد لعقد قمة أميركية فرنسية بين ماكرون وبايدن، يستعد فيها الفرنسيون لطرح الملف اللبناني على الطاولة بجدية. أما التطور الآخر، فهو زيارة المبعوث الرئاسي الفرنسي جان إيف لودريان إلى بيروت الأسبوع المقبل، لوضع اللبنانيين أمام مسؤولياتهم، والحديث عن المواصفات التي وضعتها الكتل النيابية.
هناك تفسيران لتحرك لودريان، إما أن يكون عنصراً تحفيزياً في سبيل العودة إلى التقاطعات، إنسجاماً مع التقاطعات الإقليمية والدولية، وإما أن لا تؤدي زيارته إلى أي نتيجة فيغادر، وتعود الأمور إلى المراوحة. ولكن هذه المرة مع فشل أكبر للخماسية، التي حينها يمكن أن ينتهي عملها، فيما يواصل كل طرف التحرك بشكل منفرد أو القيام بتحركات ثنائية، في سبيل البحث عن حلّ واقعي. وفي ذلك، يمكن لدول أن تبقى منخرطة بفعالية، أو أن تجد نفسها غير معنية فتنشط دول أخرى، كما هو مشهود بالنسبة إلى التحرك القطري والزيارات التي تجري إلى الدوحة، ربطاً بالدور الذي تلعبه قطر على أكثر من ملف، بما فيها الملف اللبناني.
أما في المعادلة الداخلية، فلا يزال الرهان قائماً على تقاطع بين أربعة أطراف، حزب الله، أمل، التيار الوطني الحرّ، والحزب التقدمي الإشتراكي، بالإضافة إلى نواب مستقلين من انتماءات مختلفة.. فإما أن يرسو هذا التقاطع على مرشح الثنائي الشيعي، أو على مرشح يتوافقون عليه. إلا أن معادلة الثنائي ربطاً بكل تطورات المنطقة تنظر إلى الاستحقاق من بوابة تكرار ما حصل في الثمانينيات والفوز اللبناني الذي حققه حافظ الأسد.