كرّرها أول من أمس نائب الأمين العام لـ»حزب الله»، الشيخ نعيم قاسم، لمن لم يستوعب الفكرة بعد على رغم أن السيد حسن نصر الله وقادة «الحزب» رددوها مراراً في الأسابيع الماضية، بأنه «ما لم تتوقف الحرب في غزَّة فلا يمكن أن تتوقف في لبنان… وأي نقاش سياسي له علاقة بجبهة الجنوب مؤجل إلى ما بعد الحرب في غزة». وهذا موقف سبق أن تبلّغه سفراء أجانب وموفدون دوليون بينهم الوسيط الأميركي آموس هوكستين خلال زيارته الأخيرة إلى بيروت. فهؤلاء سعوا إلى الفصل بين جبهتي غزة وجنوب لبنان لتهدئة الأخيرة.
الفصل بين الجبهتين للتهدئة جنوباً، ولتجنيب لبنان حرباً إسرائيلية عليه وعلى «الحزب»، هو ما يأمله فرقاء لبنانيون من خصوم «الحزب»، وما يتمناه حتى بعض جمهور «الحزب» ومؤيدوه في المنطقة الحدودية من جنوب لبنان. فهؤلاء من الطبيعي أن تغلب على مشاعرهم بدعم المقاومة، الخشية الكبرى من الكلفة العالية لاستمرار الاستنزاف الذي يتعرضون له في أرواحهم وأمنهم وأرزاقهم وحياتهم على رغم التمسك البطولي من بعضهم بالبقاء في أرضه، متحدياً المخاطر على مدار الساعة. فالجمهور العريض لا يريد تكرار مآسي القتل والتهجير والدمار التي خبرها جراء العدوانية الإسرائيلية وآخرها عام 2006، ويتمنى تفادي همجية الجنون في الدولة العبرية.
لكن التمنيات تصطدم بحسابات تتخطى الساحة اللبنانية، وهو ما جعل بعض الموفدين الدوليين يتصرف ضمناً خلافاً لمسعى الفصل، وإن لم يسلموا بذلك، على قاعدة صعوبة التهدئة على جبهة لبنان، قبل أن تضع الحرب على غزة أوزارها. في طليعة هؤلاء هوكستين نفسه. بعض العواصم لم ييأس من مواصلة المحاولة، لا سيما باريس التي تنسق مع الوسيط الأميركي، آملة في خلق دينامية تفاوض تتيح انضباط الجبهة الجنوبية، ريثما يحصل وقف إطلاق النار في غزة فيتوقف تلقائياً في لبنان ويعفيه من أي حرب. إلا أن هذا التوجه يخضع نجاحه للكثير من التشكيك والصعوبات في ظل انفتاح جبهات المواجهة في الإقليم.
الملفت في موقف «حزب الله»، الذي يلتقي فيه مع بعض عواصم دول اللجنة الخماسية، قول الشيخ قاسم إن «لا ربط للاستحقاقات السياسية سواء كانت مسألة رئاسة الجمهورية أو غيرها بما يجري في الجنوب»، ما يعني الاستعداد لانتخاب رئيس حتى لو استمر القتال الدائر حالياً على الحدود. إذ أنّ السيد حسن نصر الله كان أهمل في إطلالاته الأخيرة مسألة ملء الفراغ الرئاسي، ما أوحى بأن «الحزب» يعتبر ملء الشغور الرئاسي مؤجلاً لأنّ الأولوية بالنسبة إلى محور المقاومة هي المواجهة مع إسرائيل والتطورات في المنطقة.
فهل بات «الحزب» وإيران من ورائه، مستعداً لإنهاء الشغور الرئاسي، لأنه يعتبر من وجهة نظره أن قوى الممانعة حققت إنجازات بعد عملية «طوفان الأقصى» وتداعياتها العسكرية والسياسية، إذ أن خطاب قادته كافة يشدد على أن المحور حقق مكتسبات، أو أنه على طريق تحقيق انتصارات، بحيث سيكون قادراً على الإتيان بمرشحه للرئاسة النائب السابق سليمان فرنجية؟ أم أنه بات يشعر بمدى ضعف الجسم اللبناني الذي تزيده المواجهات في الجنوب عمقاً، وأنه يحتاج بالتالي إلى العودة إلى عملية إعادة تكوين السلطة من رأس الهرم بإنهاء الشغور لتتحمل هذه السلطة معه تبعات تلك المواجهة؟ أم أنّ الظروف نضجت كي يُقبِلَ على تسوية في شأن الحدود مع إسرائيل وتطبيق القرار الدولي الرقم 1701، بحيث يحتاج الأمر إلى تركيبة حاكمة تغطي اتفاق ما بموازاة الهدنة التي يجري التفاوض عليها في غزة؟
الأسابيع القليلة المقبلة كفيلة باتضاح أي من الاحتمالات الثلاثة توجب ما قاله الشيخ قاسم عن هذا الفصل بين المجريات العسكرية جنوباً، وبين الرئاسة. قد يكون الاحتمال الرابع رمي مسؤولية استمرار الشغور على الخصوم، وعلى أميركا، كما حصل خلال الأشهر الـ15 الماضية.