بعد 24 ساعة على نفي الأمين العامّ للحزب حصول تفاهمات بين إيران وأميركا، انتقل وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان إلى عُمان. هناك تجري الترتيبات بين طهران وواشنطن، إضافة إلى قنوات أخرى. بموازاة ترقّب مخاطر الردّ على ضربة إسرائيل للقنصلية الإيرانية في دمشق، حيث اغتالت إسرائيل قائد “قوّة القدس” في لبنان وسوريا محمد رضا زاهدي… هناك رصد لسيناريو الانتقام المدروس، تجنّباً لتوسيع الحرب. الحسابات في هذا الشأن تشمل الإبقاء على حرب الإشغال التي يقودها الحزب في الجنوب محدودة.
يذكّر مراقبون بما كشفه دونالد ترامب من أنّ طهران أخطرته بأنّها ستردّ على اغتيال قاسم سليماني بقصف قاعدة عين الأسد العراقية. فهل يتكرّر هذا السيناريو مع الردّ الإيراني “الحتمي” على اغتيال إسرائيل قائد “قوة القدس” في لبنان وسوريا محمد رضا زاهدي؟
موجب الرّدّ من إيران لا من أذرعها
قيل الكثير عن احتمالات ثأر إيران لقتل القائد الفعليّ للميليشيات الموالية لها في لبنان وسوريا ومعه ستّة آخرون لا يقلّون أهمّية. تحوّلت التقديرات إلى ما يشبه التنجيم حول ما تنويه. ولم يمنع هذا الحديث استنتاجات بدت بديهية، لكنّها تعبّر في الوقت نفسه عن حراجة الخيارات ودقّتها:
1- لا يمكن إيران أن توكل الردّ إلى أذرعها، سواء في العراق أو لبنان أو سوريا أو اليمن. فالضربة كانت ضدّها مباشرة وإيكال الأمر إلى هؤلاء سيبدو هروباً قياساً إلى الشعور الشعبي والوطني الداخلي بالصفعة. لذلك ارتفعت الأصوات المطالبة بالثأر أثناء تشييع القيادات السبعة في إيران. والتقويم الأميركي والإسرائيلي لردّ فعل طهران توصّل إلى الاستنتاج نفسه. نصر الله قال ذلك في خطابه الجمعة الماضي: “الردّ الإيراني على استهداف القنصلية في دمشق آتٍ لا محالة على إسرائيل”. ومسؤولون أميركيون وإسرائيليون توقّعوا حسب “نيويورك تامز” أن تردّ طهران بنفسها وليس عن طريق الحلفاء.
2- إذا استهدفت إيران إسرائيل بصواريخ من أراضيها، فستتصدّى دفاعات الأخيرة الجوّية للصواريخ البعيدة المدى بسهولة أكبر من تصدّيها لتلك القصيرة المدى. وهذا الأمر من الحسابات العسكرية المؤثّرة في اتّخاذ القرار.
بعد 24 ساعة على نفي الأمين العامّ للحزب حصول تفاهمات بين إيران وأميركا، انتقل وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان إلى عُمان
طهران ضُرِبت خارج أراضيها
3- وفق معيار “الردّ المتناسب”، الضربة لطهران حصلت في سوريا، خارج أرضيها، على الرغم من أنّ القنصلية أرض إيرانية. هذا قد يوجب عليها الردّ بالطريقة نفسها، أي الثأر من إسرائيل، خارج أراضيها. فهل يكون باستهداف إحدى البعثات الدبلوماسية الإسرائيلية في الخارج؟ أم بضربة لإحدى منشآت الطاقة والغاز في البحر؟ والأخيرة تقع في “منطقة اقتصادية” تابعة لها وليست منطقة سيادية، حسب البعض.
4- وزير الخارجية حسين أمير عبد اللهيان قال إنّ إيران “ستستخدم حقوقها التي يقرّها القانون الدولي لمحاسبة المعتدين على المبنى الدبلوماسي في دمشق”. لكنّ مجلس الأمن فشل في إصدار بيان إدانة للهجوم على القنصلية. إذ اعترضت أميركا وفرنسا وبريطانيا. مقابل التسلّح بالقانون الدولي ستواكب دول الغرب بروباغاندا إسرائيلية تقوم على إدانة استخدام طهران الأرض السورية لشنّ حرب ضدّها. وسيتصاعد السجال حول الغطاء الشرعي الرسمي السوري لوجود “الخبراء” الإيرانيين بطلب رسمي سوري. يقابل ذلك اتّهام دول الغرب وفرقاء سياسيين سوريين ولبنانيين وعرب لطهران بتدخّلات تزعزع استقرار الإقليم في سوريا وغيرها. وتعريف محمد رضا زاهدي بأنّه قائد “قوة القدس” في سوريا ولبنان لدعم المقاومة ضدّ إسرائيل يسهّل التهمة.
نصر الله و”استنزاف العدوّ نفسيّاً”
5- أثبت ضرب القنصلية ومواقع أخرى عدم صحّة التسريبات بأنّ “حرس الثورة” سحب بعض وحداته وقياداته من سوريا والعراق.
وزير الخارجية حسين أمير عبد اللهيان قال إنّ إيران “ستستخدم حقوقها التي يقرّها القانون الدولي لمحاسبة المعتدين على المبنى الدبلوماسي في دمشق”
هذه العوامل وغيرها تتعلّق باحتساب طهران للردّ المتوقّع من إسرائيل ضدّ ثأرها، على أراضيها أو في دول نفوذها العسكري والسياسي. وفي كلّ الأحوال فإنّ السيد حسن نصر الله ترك مجالاً لحديث الأسئلة والحسابات المطروحة على طهران. إذ قال: “الردّ الإيراني على استهداف القنصلية في دمشق آتٍ لا محالة على إسرائيل. أين؟ كيف؟ متى؟ الحجم؟ هذا تلف للأعصاب وتلف للدماغ واستنزاف العدوّ نفسيّاً ومعنويّاً وإلى آخره. هذا أصلاً نحن غير معنيّين أن نسأل عنه ولا أن نتدخّل فيه”. وهو بذلك يؤكّد أنّ مهمّة الردّ منوطة بإيران وقيادتها فقط. الحزب معفيّ من التورّط في العملية، وهذا يريحه في وقت يتحمّل أعباء وتضحيات ضخمة عدّدها نصر الله أكثر من مرّة. هذا فضلاً عن أنّ القيادة الإيرانية لا تريد التضحية به إذا استُدرج إلى حرب واسعة مع الدولة العبرية.
الإشارات الإيرانيّة
الإعلامان الأميركي والإسرائيلي لم يقصّرا في اللجوء إلى خيال المحلّلين ومعطيات الخبراء والمصادر “المسؤولة” و”العسكرية”. ولم يستبعد مسؤولون أميركيون استهداف إحدى السفارات الإسرائيلية بصاروخ كروز أو بمسيّرة. وفي التسريبات الإيرانية لفت ما قاله مستشار المرشد السيّد علي خامنئي (القائد الأعلى للقوّات المسلحة)، الجنرال يحيى رحيمي صفوي. إذ أعطى إشارة محتملة وأوضح أنّ “السفارات الإسرائيلية لم تعد آمنة“، مشيراً إلى اضطرار تل أبيب إلى إقفال 27 منها.
حقيقة ما يدور دبلوماسياً بين طهران وواشنطن ليس بالضرورة أن يُعرف ويكون علنيّاً
قد يكون مفهوماً أن يسخّف السيد نصر الله تحليلات عن وجود “سيناريو بين أميركا وإيران”، وقوله: “أيّ مجانين يتحدّثون بهذه اللغة؟”، فبعضها يغالي في سيناريوهات المؤامرة. وقد يكون ضيق الصدر من شطحات مغرّدين على مواقع التواصل معادين للدور الإيراني دفعه إلى وصف ذلك بـ”العمى” وأصحاب هذه التغريدات بـ”المعتوهين”… لكنّه في كلّ مرّة ينفي ما تُتّهم به إيران، ينزلق في تعداد حججه، إلى ما يشبه التأكيد لما ينفيه. كما أنّ السلوك الإيراني نفسه يترك مجالاً لاستنتاجات كهذه، عبر التسريبات، وأحياناً عبر ما توحي به التصريحات:
– عبد اللهيان نفسه قال في اليوم التالي لاستهداف القنصلية إنّه “تمّ إيصال رسالة مهمّة إلى الحكومة الأميركية باعتبارها مؤيّدة لإسرائيل”. والجانب الأميركي ردّ بالتذكير بتحذير كان وجّهه لطهران في شباط الماضي من استهداف القوات الأميركية في سوريا والعراق. وهذا يجافي القول إنّ “الجمهورية الإسلامية لا تفاوض الأميركيين في الملفّات الإقليمية باليمن، وسوريا، والعراق، ولبنان، وفلسطين”.
حقيقة ما يدور دبلوماسياً بين طهران وواشنطن ليس بالضرورة أن يُعرف ويكون علنيّاً. والدليل أنّ السيّد يعود فيردّ على خصومه: “إذا أرادت إيران التفاهم والحديث مع الأميركيين وتقوم بترتيب للمنطقة معهم، الباقون أين يُصبحون؟”. هو يوحي بذلك بأنّ حصول تفاهمات بين إيران وأميركا من الاحتمالات الواردة. وهذا وحده كفيل بإطلاق العنان للتكهّنات، سواء كانت مغالية أو دقيقة، حول الصفقات التي يمكن لطهران أن تعقدها مع واشنطن.
من الطبيعي أن يأخذ خصوم إيران عليها ذلك من باب التعبئة الإعلامية والسياسية ضدّ سياستها. يصبح مبرّراً اتّهامهم لها باستخدام دول لها نفوذ فيها، وشعارات الممانعة والمقاومة، من أجل عقد صفقات مع الشيطان الأكبر.
– في الحجج حول استقلالية الحزب وقوى الممانعة عن طهران وحرّية قرار فصائلها في إسناد غزة، وفق “المصلحة الوطنية”، ما يعاكس كلامه. فهو أوضح أنّه “عندما يُقال لنا جماعة إيران، نحن نكون أعزّاء ومبسوطين ومكيّفين… لا تظنّوا أنّكم تشتموننا”.