قدر هذا الرّجل أن يواكب التّحوّلات والانعطافات الكبرى في لبنان والمنطقة، وأن يكون جزءًا فاعلًا ومتفاعلًا معها، فمن مؤتمر لوزان ١٩٨٤ إلى اتّفاق الطّائف ١٩٨٩ كان نبيه برّي، من خارج السّلطة، شريكًا في إعادة صياغة الجمهوريّة الثّانية بعدما ساهم في إسقاط الجمهوريّة الأولى على إثر حسابات أربابها الخاطئة داخليًّا وخارجيًّا.
وخلال هاتيك السّنوات كان رئيس حركة أمل يترجم، عمليًّا، ما دعا إليه الإمام موسى الصّدر، فكريًّا، قبل تغييبه عام ١٩٧٨، فنقل الطّائفة الشّيعيّة من موقع الحرمان في الدّولة ومنها إلى موقع القرار الأكثر فاعليّة في الواقع اللّبناني والإقليمي.
هذه النّقلة النّوعيّة ليست ضربة حظّ ولا صدفة تاريخيّة، بقدر ما كانت قراءة موضوعيّة وحكيمة لواقع لبنان المعقّد بتركيبته الطّائفيّة ولطبيعة موقعه ودوره في ظلّ المتغيّرات الدّوليّة الّتي انعكست، بطبيعة الحال، على منطقة الشّرق الأوسط، بعدما كسرت «إسرائيل» عزلتها العربيّة بعقد اتّفاق «كامب ديفيد» للسّلام مع مصر على إثر رجحان كفّة الولايات المتّحدة الأمريكيّة في حربها الباردة مع الاتّحاد السّوفيتي، واعتبارها الشّرق الأوسط منطقة نفوذ شبه كامل لها.
في أثناء تلك المتغيّرات كانت حركة أمل تفرض حضورًا لا يمكن تجاوزه في لبنان بتنسيق ودعم من سورية، فحقّقت خلال أقل من سنتين، بقيادة برّي، انتصارين مفصليين في تاريخ الصّراع مع «إسرائيل» وبالتّوازي مع النّظام الطّائفي بقيادة الرّئيس السّابق أمين الجميل.
أسقط اتّفاق ١٧ أيّار عام ١٩٨٤ وأجبرت «إسرائيل» على الانسحاب من العاصمة بيروت ومعظم المناطق اللّبنانيّة عام ١٩٨٥ فتمّ تثبيت هويّة لبنان العربيّة بقوّة مقاومته.
بين ١٩٨٥ و ١٩٩٠ عاش برّي أكثر مراحل حياته السّياسيّة خطورة وتعقيدًا، حيث فُرضت عليه حروب خاضها مرغمًا فتعلّم منها كيف يوازن بين أقصى رغباته اللّبنانيّة وأقصى واقعيّته العربيّة والإسلاميّة، وصار معها «الأستاذ» الّذي حارب الجميع وحاربوه ثمّ عادوا إليه، وهو ثابت على قناعاته، فمنهم من حالفه ومنهم من هادنه وكلّهم تجنّبوا الصّدام معه، ومن تجرّأ وغامر خسر النّزال في ساحته.
ومنذ تسلّم رئاسة مجلس النّوّاب عام ١٩٩٢ أقام برّي توازنًا من نوع آخر، فكرّس نفسه مرجعيّة وطنيّة في زمن الوجود السّوري وبعده، وفي زمن محاولة زرع الفتنة الدّاخليّة إثر اغتيال الرّئيس الشّهيد رفيق الحريري عقد طاولة الحوار الوطني فجنّب لبنان أخطر المعارك وأشرسها.
وفي زمن حرب تمّوز كان وحده جيش تفاوض في وجه جيوش الضّغط الدّيبلوماسي الغربي والأمريكي في عين التّينة والعسكري الصّهيوني على مساحة لبنان، فخرج بالقرار الدّولي ١٧٠١.
وفي زمن الحرب على سورية كان وما زال أوّل وآخر الدّاعمين لدمشق، شريان لبنان الوحيد باتّجاه كلّ العرب، فاتّخذ موقفًا سياسيًّا حاسمًا بدعم الدّولة السّوريّة وحمل قضيّتها إلى كلّ المحافل العربيّة والإسلاميّة ناطقًا باسم العروبة «أن لا قيامة للعرب وسورية محاصرة ومدمّرة».
وفي حمأة الصّراع المذهبيّ الممتدّ من العراق إلى سورية، ويوم كان الذّبح قائمًا على الهويّة الطّائفيّة، كان نبيه خيمة الحوار الوحيدة في البقعة الأكثر طائفيّة فالتقى برعايته وفي بيته ممثّلين عن حزب الله وتيّار المستقبل بهدف تخفيف الاحتقان ودرء الفتنة، وهكذا كان..
وعند اندلاع حراك ١٧ تشرين كان برّي أوّل المستهدفين على خلفيّة تلك الأدوار الوطنيّة، فامتصّ حملات التّشويه والتّشويش، وبقي على مواقفه برغم كلّ عروض التّرغيب والتّرهيب لأنّ سقوط الدّولة يعني تعميم الفوضى واستدراج المقاومة إلى الدّاخل ليسهل استهدافها، فتحمّل سهام الأقربين والأبعدين وبقي محافظًا على الحدّ الأدنى الممكن من عمل المؤسّسة الّتي يرأسها والّتي تمثّل نقطة الالتقاء الوحيدة بين جميع المكوّنات المتصارعة.
واليوم، في ظلّ الحرب، على غزّة، الحرب الأطول في تاريخ الكيان الصّهيوني والأكثر تعقيدًا في المنطقة، يوازن برّي مرّة جديدة بين لبنانيّته وعروبته، بين فلسطين، قضيّة العرب والمسلمين الأولى، وبين لبنان الوطن النّهائي لجميع بنيه.
يدعم فلسطين وحقّها رغم تخلّي العالم كلّه عنها، إلّا من رحم ربّي، ويقدّم الشّهداء دفاعًا عن الجنوب ولبنان متمايزًا عن «وحدة السّاحات» رغم تكامله مع السّيّد حسن نصرالله في الرّؤية والهدف.
يستقبل قادة حركة حماس، وعلى رأسهم الشّهيد صالح العاروري معلنًا وقوفه إلى جانب المقاومة في غزّة وفلسطين، ويستقبل الموفدين الغربيين، المهدّدين والمتوعّدين، وعلى رأسهم المبعوث الأمريكي «عاموس هوكشتاين» ليبحث في تطبيق القرار ١٧٠١ وفي الوقت نفسه يعلن أن لا حلّ في لبنان ما دامت الحرب على غزّة قائمة.
اللّقاء مع «نبيه برّي المدرسة» في هذه المرحلة مهمّة شاقّة يتمنّاها كثيرون لكنّها محفوفة بكثير من الحيرة والحذر.
تبدو على الرّجل الطّاعن في التّجربة والحنكة والحكمة علامات القلق والتّرقّب والحذر، يستقبلك بابتسامة محبّ، وأثر صيام العشر الأواخر بادٍ على محيّاه، تبدأه التّحيّة وتتلعثم في طرح هواجسك، فيأخذ عنك عناء الارتباك بطرح ما تخشى طرحه ليصحبك في رحلة مع ذاكرته المثقلة بالأحداث والمواقف الصّعبة، وبعد قراءة الماضي يحطّ رحال الكلام في حاضر الوقائع وتوقّعات الغد بكثير من الموضوعيّة والواقعيّة وبعيدًا من ترّهات المتحمّسين والمهوّلين.
في الحديث عن غزّة يشيد بمقاومتها وصمود أهلها، ويرى في «طوفان الأقصى» حدثًا استثنائيًّا سيغيّر «إسرائيل» كما غيّر النّظرة إلى قضيّة فلسطين في عيون العالم، ورغم فداحة الجريمة الصّهيونيّة المتمادية يؤكّد بأنّ بدر الانتصار سيكتمل مهما تراكمت غيوم المأساة حول هلال التّضحية.
عن إيران واستهداف قنصليّتها في دمشق يجزم برّي بقرار الرّدّ الإيراني الّذي سيشكّل منعطفا في مسار الحرب، وذلك متوقّف على ردّ فعل العدوّ الاسرائيلي وحقيقة الرّغبة الأمريكيّة بعدم انفلات الأمور نحو حرب إقليميّة شاملة.
أمّا عن جبهة الجنوب فيثني على أداء حزب الله وحركة أمل بالحفاظ على قواعد الاشتباك، رغم محاولة إسرائيل» استدراج المقاومة إلى حرب شاملة، إلّا إذا تدحرجت الأمور بعد الرّد الإيراني المرتقب، فعندها ستشتعل المنطقة كلّها.
ويبقى الجنوب وأهله الشّغل الشّاغل للرّئيس برّي، ففي الحديث عن الجنوب تتغيّر نبرته وهو الّذي حمل الجنوب لكنة ولهجة وتراثًا في قلبه وعقله وهو الّذي بنى بناه التّحتيّة منذ العام ١٩٩٢ بعد مسيرة حرمان متطاولة في الزّمن.
يتحدّث ابن «تبنين» بحرقة عن الشّهداء والدّمار الممنهج الّذي تعتمده «اسرائيل» عقابًا للمرابطين على حدود لبنان وحدود وفائهم لقضاياهم الوطنيّة والعربيّة والإيمانيّة، وبين سطور الحرقة بريق فخر بتلك التّضحيات الجسام في زمن التّخلّي والخذلان.
وعن إعادة الإعمار يقول برّي: السّيّد نصرالله وعد بإعادة الإعمار وأنا بدوري سأتحمّل إلى جانب لبنان كل لبنان عناء التّعويض عن الجنوبيين ولو اضطررت إلى التّنقّل بين عواصم الاغتراب لكي أفي هؤلاء الطّيبين حقوقهم، فما قدّمه الجنوب للبنان وفلسطين لم يقدّمه أحد منذ تأسّس الكيان الغاصب.
وكان لا بدّ من السّؤال عن رئاسة الجمهوريّة والجمود القاتل منذ سنة ونصف، وكان جواب العارف منذ اللّحظة الأولى بأنّ المعضلة داخليّة ولو لبّت القوى السّياسيّة دعوته إلى الحوار لوفّرنا الكثير من الوقت وتجنّبنا الكثير من الأزمات، وبكل صراحة، ليس لبنان فقط، المنطقة كلّها تنتظر انتهاء الحرب على غزّة لإعادة ترتيب ملفّاتها.
يودّعك رئيس المجلس إلى باب المصعد، تواضعًا منه وتحبّبًا ويعود إلى مكتبه لمتابعة هموم السّياسة والحرب، ويترك فيك كثيرًا من الحبّ والدّعاء والأمل!