كان المشهد في لبنان يوم الجمعة الماضي معبّراً جدّاً عن صورة البلد وإشكاليّاته، أو حتى مآسيه وأزماته ومآزقه.
في الجنوب، كان ثمّة فريقٌ لبناني يُعلن حرباً مفتوحة على طول الحدود اللبنانية الدولية، من أجل غزة ومن خلفها فلسطين. ويُصدر يومياً بيانات تضحياته “دعماً لشعبنا الصامد” هناك.
في الشمال، كان فريقٌ لبناني ثانٍ، أقلُّ قدرة وتأثيراً من الأوّل ربّما، يُعلن معركةً في الشارع، أصغر من الأولى، على قياس قدراته لا رغباته، من أجل بقاء “إخوته” السوريين في ربوعنا وصمودهم في “ولاية لبنان”.
وبين الاثنين، كانت زمرٌ شراذمُ موزّعة في بيروت ومختلف المناطق تتظاهر وتقطع الطرق وتهدّد وتتحدّى، رفضاً لتطبيق قانون لبناني هو من بديهيات العيش الكريم في مجتمع معاصر، اسمه قانون السير.
طبعاً، مطالعات كلّ من الأطراف الثلاثة دفاعاً عن منطقه وتفكيره وسلوكه، جاهزة ومعروفة. وبعضها يضجُّ ويفيض أدباً بليغاً على مواقع التشاتم الاجتماعي.
الفريق الأوّل، صاحبُ الحرب في الجنوب، يُعلن بما يشبه المسلّمات المقدّسة: أنْ هذه فلسطين يا…
هذه قدس الأقداس ومركز كلّ القضايا ومحور كلّ حياة. وقد تجد حتى في هذا المقلب من يؤمن، ومن يبوح ربّما، بأنّه إذا قُدّر لنا، أو قُيّض أو فُرض أو صودِف، أن يزول لبنان مليون مرّة، مقابل أن نقرّب خطوةً واحدة صوب القدس، لما تردّدنا!
علماً أنّ في جوهر هذا المنطق عقيدة دينية مرتبطة بدوغماتية شمولية، ومنبثقة من تيوقراطية قائمة بالفعل والواقع.
لكنّ في التموضع السياسي لهذا المنطق شبكة مصالح إقليمية كبيرة. فيها من البراغماتية والواقعية والانتهازية ما في كلّ حسابات سياسية دولية. شبكة تبدأ من “إيران – كونترا غايت”، مروراً بمذكّرات رايان كروكر عن التنسيق الأميركي الإيراني لاحتلال العراق، انتهاء بصفقة “كاريش – بغداد” قبل سنتين فقط!
في الجنوب، كان ثمّة فريقٌ لبناني يُعلن حرباً مفتوحة على طول الحدود اللبنانية الدولية، من أجل غزة ومن خلفها فلسطين
هذه بلاد الشام يا…
الفريق الثاني، صاحبُ المعركة في الشمال، يُعلن بلغة مقدّسة مطابقة لكنْ مقابلة، أنْ هذه هي بلاد الشام يا…
منطقه يقول إنّ “هذه أرض الثغور وأميّة والخلافة وشآم صلاح الدين وقبره… حتى آخر الإيمانيات والتاريخيات.
شعبها شعبنا. لا بل نحن منهم ولهم. حاولوا منذ عقد ونيّف أن يتحرّروا. وناصرنا “تحريرهم” بما أوتينا. ففشلوا وفشلنا. ولذلك حتميٌّ علينا أن نظلّ معهم ويظلّوا معنا. في أرض “أمّة واحدة”. ولو قسّمها مؤقّتاً استعمارٌ فرنجيّ صليبيّ بائد ساقط”.
تبقى بين الفريقين سردية زمر الدرّاجات الناريّة. وأهمّ ما فيها أنّها الأبسط والأسطح: لسان حال هؤلاء يردّد أنْ “كلُّ ما له علاقة بهذه الدولة نحن ضدّه. والفقرُ حجّتنا ضدّها. والحرمانُ سندُنا لدكِّها وضربها. فقراء ومحرومون نحن، حتى نهدمَ هذه الدولة بما ومن فيها”.
وإن كانت غالبية هؤلاء الساحقة تقترع حتماً منذ وُلدوا ووُلد آباؤهم لحكّام هذه المنظومة لا غير. يبايعونهم للزعامة في الصناديق باسمهم. ثمّ يثورون ضدّ “دولتهم” في الشوارع والأزقّة، باسم عواقب حكمهم لهم، وتنديداً بما جنوه عليهم وعلى أنفسهم.
بين أبو ظبي والقاهرة مثلاً، مشهدٌ مذهلٌ عنوانه استثمارٌ بقيمة 35 مليار دولار أميركي فقط لا غير، لتظلّ “الدولة الوطنية” في مصر صامدة بوجه الأزمات المختلفة
رفض “الدّولة الوطنيّة”
محصّلة الخطابات الثلاثة للأفرقاء الثلاثة أنّ هناك رفضاً لشيء اسمه “دولة وطنية” في لبنان. لا بل هناك عداءٌ حتى الحقد عليها وعلى مفهومها وثقافتها. البعض يقدّم لذلك تسويغات دوغماتية. البعض الآخر يعبّر بل يفجّر مكبوتاته وحتى التشوّهات حيالها بعفوية وتلقائية.
من الإصرار الكامن على شغور الرئاسة، حتى عدميّة احترام قانون السير. مع كلّ ما بينهما من مستويات وتجلّيات. هذا الهوس المرضيّ باستباحة كلّ ما هو “عامّ”، بغرض إزالته وإلغائه ومحوه من الوجود. من المال العامّ إلى الملك العامّ إلى الشأن العامّ والحقل العامّ وحتى الذوق العامّ.
كلّ ذلك لإقناع ذاك الإنسان البائس المقهور المستغَلّ، أو إيهامه بأنّ “الدولة الوطنية” هي عدوّك. وهي علّة كلّ مآسيك. وأنّ الخلاص منها هو خلاصك. اللادولة هي حلّك الوحيد! منها نأخذك إلى حيث نريد ونستفيد!
لكنْ تشاء الصدف أن تتزامن هذه المشاهد اللبنانية “الثلاثة بواحد”، مع مشهد إقليمي مغاير كلّياً، حتى التناقض.
فبين أبو ظبي والقاهرة مثلاً، مشهدٌ مذهلٌ عنوانه استثمارٌ بقيمة 35 مليار دولار أميركي فقط لا غير، لتظلّ “الدولة الوطنية” في مصر صامدة بوجه الأزمات المختلفة، من اقتصادٍ وسياسة وإقليم من كلّ جهاته.
طبعاً هناك من يحاول التسويق بأنّ هذه رشوة “محور أبراهام” لفرعون النيل.
لكنّ الأكيد أنّ أساس الخطوة هو ألّا تسقط “دولة مصر الوطنية”، أياً كانت مصادرُ تهديداتها ومسمّيات المخاطر عليها، حتى لا تقوم محلّها “دولة الإسلام السياسي المصري”.
ثمّ بين أبو ظبي والرياض ودمشق، مشهدُ تعاونٍ مكثّفٍ معمّق. بعضه معلن ومعظمه بصمت، كي تعود سوريا سوريّة.
تخطّت سلطات السعودية والإمارات عقداً ونيّفاً ممّا لا يُحكى ولا يُحتمل، وعادت إلى دعم بشار الأسد نفسه.
البعض يقول إنّها قاعدة المهزوم والمنتصر، وإنّها نتائج خطأ الرهانات وأوهام المغامرات والمقامرات.
لكنّ خلف تلك التخرّصات حقيقة أكثر جدّية. وهي ضرورة ألّا تسقط “دولة سوريا الوطنية”، على علّاتها وعوراتها واعتوارها، أمام “دولة الإسلام السياسي السوري”.
فلسطين الفلسطينية العربية الإنسانية، ضرورة لكلّ العالم العربي. وشرطٌ لتقدّم إنسانه ومواكبته العصر
دولة فلسطين الوطنيّة
بين الرياض وواشنطن مشهدُ اتّفاقٍ استراتيجي قد يغيّر وجه منطقة كاملة. الطرفان أعلنا أنّه بات شبه منجز، وأنّ مضامينه الثنائية قد أُقرّت كاملة. لكن يبقى تفصيلٌ شرطيٌّ لاغٍ لكلّ الاتّفاق: أن تنتزع واشنطن من الكيان الصهيوني “دولة فلسطين الوطنية”.
المتشكّكون يسارعون إلى القول إنّها براغماتيّةُ تجارةِ الصفقات. وهو منطقُ أن تسعى إلى تغطية “ارتكاب التطبيع” براية فلسطين، وأن تحتمي بها لتمرّر شرعية النظام وانتقال السلطة فيه وكلّ ما يرتبط بذلك من استحقاقات وتحدّيات.
لكنّ الحقيقة الأعمق هي سوى ذلك. هي أنّ فلسطين الفلسطينية العربية الإنسانية، ضرورة لكلّ العالم العربي. وشرطٌ لتقدّم إنسانه ومواكبته العصر.
فيما “فلسطين الإسلام السياسي”، الإخواني الانتماء أو الخمينيّ الولاء، هي حليفة موضوعية لصهيونية تلمودية متوحّشة، تبادلت معها طوال عقدين ونيّف، خدمات التمويل والتقوية والتمويه والاستثمار الخبيث.
والاثنتان معاً تهدّدان بقفزةٍ للعرب والعالم نحو ألفيّة سابقة من الزمن الأسوأ.
هكذا هو لبنان اليوم. بين اسوداد كلّ ما فيه. وبين فسحات ما حوله لاحتمالِ غدٍ أفضل.
أيّ المسارين سينتصر؟
الواضح أنّه سباق مع الوقت. سباق حقيقي بين الماضويّة والغد. بين الموت والحياة فعلاً.