يحدث أن تتبدّل مواقف وسياسات قوى أو دول أو أنظمة. ما يقود إلى ذلك هو التبدل في المشاريع أو الوجهات. ويحدث أيضاً أن تنقلب المواقف لدى أصحابها، فيصبح الخصم صاحب موقف خصمه.
انقلاب الأدوار
تماماً هذا ما يحصل في لبنان بين التيار الوطني الحرّ من جهة، والقوات اللبنانية من جهة أخرى. منذ عملية اختطاف منسق القوات اللبنانية في جبيل باسكال سليمان وقتله، ومع بروز التحقيقات التي أشارت إلى اتهام مواطنين سوريين بارتكاب الجريمة، رفع حزب القوات اللبنانية السقف عالياً ضد الوجود السوري في لبنان. انتهجت القوات منطق التعميم، وألقت باللوم على السوريين. ترافق ذلك مع اعتداءات ضد السوريين في مناطق مختلفة. بدا موقف القوات وكأنه موقف التيار الوطني الحرّ قبل سنوات. فيما خرج جبران باسيل بموقف هادئ وعقلاني رفض فيه الاعتداءات أو المقاربات العنصرية. لا داعي هنا للدخول في السجالات المفتوحة بين الجانبين حول من يتحمل المسؤولية. لكن ما جرى هو مؤشر إلى انقلاب الأدوار بين الطرفين.
ليس تفصيلاً أن يحصل ذلك على وقع مساعي جبران باسيل للانفتاح على كل القوى السياسية وعلى بعض الدول العربية، في مقابل بقاء جعجع في مكانه، متراجعاً عن وصف السعودية بأنها حليفة، واضعاً إياها في خانة الدولة الصديقة. تأتي هذه الأحداث في ظل تقارب مشهود حصل في انتخابات نقابة المهندسين بين التيار الوطني الحرّ، حركة أمل، حزب الله، والحزب التقدمي الإشتراكي. وسط مساع مستمرة للتقاطع على نقاط أخرى، ولإبقاء التواصل قائماً، تحضيراً لأي تسوية يمكن أن تحصل لاحقاً. لكن الأهم أنه في ظل هذه التطورات، ستجد القوات نفسها وحيدة أو على تحالف مع بعض القوى المعارضة وحسب.
“مشكلة” اللاجئين
حتماً، مشكلة اللاجئين ليست داخلية، ولا ترتبط بالانقسامات السياسية، بل هي مشكلة كبرى على مستوى الدولة وعلى مستوى دولي أيضاً. ولا شك أن الوجود السوري في لبنان هو معضلة هائلة لا يمكن لهذا البلد أن يتحملها. وهي تحتاج إلى حلّ جذري لم تستجب له الدولة اللبنانية منذ الأيام الأولى للجوء من خلال عدم تنظيمه وعدم السيطرة عليه وعدم بناء مخيمات. وهذا تتحمل مسؤوليته الدولة اللبنانية ومؤسسات المجتمع الدولي، لا اللاجئين. فلا يمكن إغفال مسؤولية المجتمع الدولي عن هذه الكارثة الإنسانية، من خلال تهجير ملايين الناس على مرأى العالم مع عدم القيام بأي جهد جدي حقيقي لتوفير ظروف إعادتهم إلى بلادهم.
أمام هذا الواقع، لا بد من الإشارة إلى أن هناك هشاشة كبرى على مستوى الدولة ومؤسساتها، فتبدو أضعف من معالجة أصغر مشكلة سياسية أو إدارية أو قضائية. وبالتالي، هي لن تكون قادرة على معالجة هذا الملف، لكنها في المقابل تجد اللاجئين السوريين في حال ضعف أكثر منها، فتستقوي عليهم، وتسعى إلى إلقاء كل الأزمات على كاهلهم ورفع السقف في مهاجمتهم. وهذا نتاج للإفلاس السياسي الذي لا يمكن سدّه إلا بخطابات عنصرية وطائفية، من دون تقديم أي حلول عملانية.
“سياسة” الهجوم على اللاجئين
قضية مهاجمة اللاجئين بشكل عنيف، انتهت (تقريباً) من قبل التيار الوطني الحرّ، لتحط عند القوات اللبنانية راهناً. فلم تعد تجد مشكلة اجتماعية أو سياسية تواجهها سوى ملف اللاجئين. وهي المشكلة التي تفجرت بعد اختطاف وقتل منسق القوات اللبنانية في جبيل باسكال سليمان. المفارقة، أنه في البداية تم التعاطي مع هذه القضية باعتبارها جريمة سياسية، وبعدما اختلفت الوقائع حسب التحقيقات، أحالت القوات المشكلة على اللاجئين كلهم، ليصبحوا هم في عين المواجهة، بعدما كان جعجع قد أعلن بشكل صريح أن الواقع في البلد هو صراع بين المسيحيين الذين يؤيدونه وبين الشيعة. ويبدو أنه أسهل على جعجع خوض معركة ضد اللاجئين، ومهاجمتهم، بدلاً من أن يواجه حزب الله القوي.
لا يقتصر إلقاء الأعباء على كاهل اللاجئين لدى المسيحيين فقط، بل كل البيئات اللبنانية تعمل على ذلك. فشيعياً، كان اللاجئون السوريون سابقاً يتهمون بأنهم مع داعش والنصرة، وحصلت حملات عنيفة وشنيعة ضدهم. أما حالياً ومنذ الحرب على غزة وانخراط حزب الله بها وجعل لبنان جبهة مساندة، انتقل الاتهام باتجاه السوريين من اعتبارهم متطرفين أو مؤيدين لداعش والنصرة إلى اتهامهم بالعمالة لإسرائيل، وتحميلهم مسؤولية إفشاء معلومات أو تصوير عناصر حزب الله، بحثاً عن ذريعة لحالات الانكشاف الأمني.
حتى داخل المجتمع السنّي الذي يعتبره البعض بيئة حاضنة للاجئين، فإن الواقع يبدو مختلفاً، من خلال بعض الحملات التي تشير إلى الأعباء التي يضعها اللاجئون على كاهل اللبنانيين، أو حملات تشير إلى المزاحمة في مجالات العمل.
اللبنانيون كلاجئين أيضاً
واقع لبنان ودولته، يجعل اللبنانيين أنفسهم يعيشون وكأنهم لاجئين في بلدهم، في ظل انعدام الأمان، والطمأنينة الاقتصادية، والعيش بظروف حرب، وبمشكلات اجتماعية هائلة، من دون توفر أي دولة قادرة على توفير النظام الخدماتي الطبيعي أو منظومة الأمن الاجتماعي.. وكل الظروف الرديئة التي يعيشها اللاجئون في كل دول العالم.
بالتأكيد هي أزمة متفاقمة، يراهن لبنان فيها على ما يمكن أن يقدمه المجتمع الدولي، فيما لا قدرة لدى الداخل على فرض أو تقديم أي رؤية جدية لمعالجة هذا الملف. وإلى أن تحين تلك اللحظة، فمن الواضح أن جهات كثيرة ستمضي في خوض معركتها مع اللاجئين، ولو بالمعنى السياسي أو المعنوي، وصولاً إلى انتقاد المجتمع الدولي، والدعوات للخروج على القانون الدولي من قبل من يعترض على جعل حزب الله للبنان خارج المنظومة الدولية، ولمن يعتبر أن لبنان من أوائل الدول التي وقعت على ميثاق إنشاء الأمم المتحدة.
دخل سمير جعجع هذا المسار، وهو الذي كان يدعو إلى احتضان اللاجئين وحمايتهم. وهو بذلك تماماً كما خرج ذات يوم بخطاب وطني جامع، واتجه في اليوم التالي إلى خطاب “القانون الأرثوذكسي”، ليعود ويخرج منه إلى ائتلاف أوسع مع تموضع سياسي عريض، ليعود بعدها إلى معادلة “أوعا خيّك”، وبعدها حطّ الرحال عند الصراع بين الأخوة، والذي سيبقى مستمراً على وقع من يرفع سقف خطابه الشعبوي أكثر.