تاريخيا، كانت السياسات الخارجية للمملكة العربية السعودية تقترب كثيرا من مواقف الولايات المتحدة باستثناء ما يتعلق منها بالصراع العربي -الإسرائيلي. هذا التقارب كان حصيلة عاملين؛ الأول هو الحرب الباردة بين المعسكر الغربي بقيادة الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي الذي رأت فيه المملكة تهديدا أيديولوجيا لأمنها واستقرارها.
ويعود الثاني الى اتفاق بين الطرفين يصل الى حد الشراكة تقوم فيه المملكة بإمداد السوق العالمي باحتياجاته النفطية مقابل ضمانات أمنية تقدمها اليها الولايات المتحدة بما في ذلك تزويدها السلاح وحمايتها من أية اعتداءات خارجية.
حتى بعد انتهاء الحرب الباردة الذي تُوِّج بانهيار الاتحاد السوفياتي وتفككه العام 1991، بقيت السياسات الخارجية للمملكة قريبة بشكل عام من مواقف الولايات المتحدة. مثلا أيدت المملكة تدخل “حلف شمال الأطلسي” (ناتو) ضد صربيا العام 1998 على الرغم من عدم وجود قرار من مجلس الأمن، ووقفت بقوة الى جانب الولايات المتحدة في حربها “العالمية” على الإرهاب. وعلى الرغم من معارضتها الغزو الأميركي للعراق العام 2003، فانها لم تعمل على حشد العالمين العربي والإسلامي في وجه الولايات المتحدة، مع أنها كانت أحد أكبر المتضررين من هذا الغزو الذي مَكّن إيران من العراق.
مغاير للنسق التاريخي
لكن مَن يتابع السياسات الخارجية للمملكة منذ عقد ونصف العقد، يلاحظ تغيرا فيها يصل الى حد التعارض مع سياسات الولايات المتحدة، وهذا مغاير للنسق التاريخي لسياساتها الخارجية التي كانت توصف بـ “الحذرة” وتتجنب “إغضاب” الولايات المتحدة أو السماح بظهور الخلافات السياسية معها الى العلن.
يمكن القول بأن هذا التغير بدأ مع الغزو الأميركي للعراق وتعمق تدريجيا خلال ولاية الرئيس باراك أوباما الأولى الى يومنا هذا. لاحظنا مثلا الخلاف بين الولايات المتحدة والمملكة في شأن المفاوضات على الملف النووي الإيراني. يمكن القول أيضا بأن تدخل المملكة العسكري في اليمن كان بخلاف الرغبة الأميركية التي امتنعت عن تزويدها الأسلحة الفائقة الدقة خلال نهاية فترة ولاية أوباما.
وأخيرا يمكن ملاحظة المواقف السياسية المختلفة للبلدين من مسألة الحرب في أوكرانيا. المملكة رفضت بوضوح فرض العقوبات الاقتصادية على روسيا ونسقت معها ضمن “أوبك +” على خفض إنتاج النفط بمقدار مليوني برميل يوميا في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، وهذا ما دفع الرئيس الأميركي جوزيف بايدن الى التهديد علنا بأن الرياض ستتحمل عواقب أفعالها، فيما دعا آخرون إلى تجميد التعاون الأميركي – السعودي ووقف مبيعات الأسلحة للسعودية والمضي قدما في ما يسمى بتشريع “نوبك”، وهو تشريع يهدف الى تمكين وزارة العدل الأميركية من مقاضاة دول “أوبك+” بموجب قانون مكافحة الاحتكار.
لقد شهدت العلاقات السعودية- الأميركية في السابق وخصوصا بعد أحداث 11 سبتمبر/أيلول الإرهابية توترا واضحا وهجوما على المملكة تم التعبير عنه بشكل صارخ في كتب ومقالات ظهرت بشكل مكثف في مراكز الأبحاث والإعلام الأميركي. لكن هذا الاعلام ومعه مراكز الأبحاث الأميركية، لم يصل الى حد اتهام المملكة بالتحالف مع خصوم الولايات المتحدة الأميركية أو أنها تسعى إلى التدخل في السياسات الداخلية للولايات المتحدة، كما حدث أخيرا بعد قرار “أوبك+” خفض انتاج النفط.
هذه الوقائع تكشف عن تغيرات في سياسات المملكة الخارجية يجب الانتباه إليها وفهم أسبابها واتجاهاتها.
متغيرات بنيوية في البلدين
في العقدين الأخيرين تحولت الولايات المتحدة من دولة مستوردة للنفط والغاز الى دولة مصدرة لهما، وكان لذلك انعكاسات في سياساتها تجاه منطقة الخليج. لاحظت الرياض هذا التغير وأن الولايات المتحدة أصبحت تُعطي مصالحها هي الأولوية، حتى لو كانت على حساب مصالح شركائها. على سبيل المثل، كانت أولوية الولايات المتحدة والعديد من الدول الأوروبية هي التوصل الى اتفاق نووي مع إيران، فيما كانت أولوية السعودية هي وقف سياسات إيران العدوانية في الدول المجاورة لها، وتحجيم قدراتها الصاروخية المتطورة لا سيما بعد الضربة التي تعرضت لها منشآتها النفطية في بقيق في سبتمبر/أيلول العام 2019 التي أدت إلى خفض إنتاج المملكة من النفط إلى النصف ولمدة شهر تقريبا.
كما لاحظت الرياض أيضا، انه وفي الوقت الذي يُصعِّد فيه الإيرانيون هجماتهم على ناقلات النفط في منطقة الخليج العربي ويُصعِّد فيه الحوثيون ضرباتهم الصاروخية البالستية ومُسيّراتهم الانتحارية مُستهدفين مطارات المملكة وحقول نفطها وبنيتها التحتية، سحبت الولايات المتحدة بعض منشآتها الدفاعية من المملكة، مُعززةً بذلك الفكرة الرائجة أن الاعتماد على الولايات المتحدة أصبح غير ممكن بسبب رغبتها في الانسحاب من الشرق الأوسط.
في الواقع، لاحظ القادة السعوديون هذه الرغبة الأميركية بالابتعاد عن الشرق الأوسط وتوجيه اهتمام واشنطن ومصادر قوتها إلى مناطق أخرى في العالم منذ ولاية الرئيس أوباما الأولى الذي اعتبر الصين الخطر الإستراتيجي الذي يهدد تفرد أميركا في العالم، وتعزز ذلك في ولايته الثانية واستمر لاحقا. رغبة الولايات المتحدة بتخفيف وجودها العسكري في منطقة الشرق الأوسط بما فيه الخليج العربي وتوجيه مصادرها المالية والعسكرية والسياسية الى مواجهة الصين، كانت أكبر من أن يتم إخفاؤها.
شراكة في شرق آسيا
ما تقدم، ليس الأسباب الوحيدة التي فرضت على المملكة اختيار نهج جديد في سياساتها الخارجية. المملكة أيضا شهدت وتشهد تغيرات بنيوية.
اليوم، يعتمد رفاه الشعب السعودي على علاقاته التجارية مع دول شرق آسيا وفي مقدمتها الصين التي تعتبرها الولايات المتحدة خصمها الرئيسي في عالم يشهد تسارعا في المنافسة بين القوى العظمى. لكن بينما ترى الولايات المتحدة الصين خصما، ترى فيها المملكة شريكا.
في العقد الماضي، كان المصدر الرئيسي لدخل المملكة ناتج من تجارتها مع الدول الآسيوية حيث شهد تصدير النفط وحده زيادة متصاعدة منذ عام 2015 إلى الصين واليابان والهند وكوريا الجنوبية وصل في العام 2020 إلى أكثر من 66 % من إجمالي صادراتها من النفط إلى هذه الدول الأربع وحدها. في العام 2021 بلغت واردات المملكة من الصين 20 % من مجمل وارداتها السنوية في الوقت الذي وصلت فيه وارداتها في العام نفسه من الولايات المتحدة الى 10 % فقط.
الأهم من ذلك، تعتقد المملكة أن الفرصة السانحة لها تضيق بسرعة للابتعاد عن الاقتصاد القائم على النفط والغاز إلى الاقتصاد القائم على المعرفة. قبل الحرب في أوكرانيا، بدأت جميع الدول الصناعية في مشاريع الطاقة الخضراء التي تهدف إلى تقليل الاعتماد على النفط، وقامت الحرب في أوكرانيا فقط بتسريع هذا التوجه الغربي لتوفير بدائل لواردات النفط والغاز الروسية. على سبيل المثل، توصل الاتحاد الأوروبي إلى اتفاقية تنص على أن “جميع السيارات والشاحنات الجديدة المسجلة في أوروبا ستكون خالية من الانبعاثات الكربونية في حلول عام 2035”. بالنسبة إلى المملكة التي يبلغ عدد سكانها أكثر من 35 مليون نسمة، منهم 60 % دون سن الثلاثين، هذه مسألة مُقلقة تُحتم عليها إنجاز عملية التحول الاجتماعي والاقتصادي مستفيدة من عائداتها النفطية الحالية قبل فوات الأوان.
تدرك المملكة أن لديها وقتا محدودا لتنويع اقتصادها بعيدا من النفط لأن العالم سيتجه في نهاية الأمر الى مصادر بديلة للطاقة. التنويع الاقتصادي يتوقف على إعادة هيكلة اقتصادها من خلال تنفيذ رؤيتها 2030 التي أعلنتها العام 2016. لكن تحقيق هذه الرؤية التي تتضمن تحويل المملكة الى بلد سياحي ومركز مالي وتجاري ومصدِّر للطاقة البديلة أيضا، يحتاج الى الاستثمار في مشاريع عملاقة تكلف مئات المليارات من الدولارات وهذا يحتاج الى بقاء أسعار النفط مرتفعة نسبيا بهدف الافادة من عائداته لخدمة هذه المشاريع، ويحتاج أيضا الى علاقات متوازنة مع الدول التي يمكنها المساهمة في تنفيذ رؤيتها الاقتصادية مثل الصين وروسيا والهند واليابان.
مرتكزات جديدة
المتغيرات البنيوية المرتبطة برغبة الولايات المتحدة بتقليص وجودها في الشرق الأوسط، والمتعلقة برغبة العالم في الابتعاد عن النفط، بالإضافة الى اعتماد رفاهية سكان المملكة على علاقاتها التجارية مع دول شرق آسيا، هي ما فرض التغير الذي نشاهده في سياسات المملكة الخارجية. هذا التغير يستند الى عدد من المرتكزات هي:
أولا، توصلت الرياض الى اقتناع بأنه لم يعد في إمكانها الاعتماد على الولايات المتحدة وحدها من أجل أمنها، وهي بحاجة إلى تنويع المصادر التي تعزز أمنها من خلال البحث عن مصدرين للأسلحة المتقدمة غير الولايات المتحدة التي أصبحت تضع شروطا سياسية على بيعها الأسلحة للمملكة، مع العمل في الوقت نفسه على توطين صناعتها العسكرية، لا سيما في المجال الدفاعي. هذا يعني التنويع في الشركاء الأمنيين، الأمر الذي يتطلب علاقات جيدة مع القوى العظمى الأخرى مثل روسيا والصين وفرنسا وبريطانيا، وليس فقط مع الولايات المتحدة.
هنا يجب الانتباه أن هذا لا يعني أن لدى المملكة خطة لاستبدال الحليف الأميركي في المجال الأمني، لكن هدفها هو الافادة من الفرص القائمة لتطوير إمكانات المملكة الأمنية من طريق توطين التكنولوجيا والحصول على الأسلحة الدفاعية المتقدمة التي لا يمكن الحصول عليها من الجانب الأميركي. الدور الأمني للولايات المتحدة في منطقة الخليج لا تستطيع تعويضه الصين أو أية دولة كبرى أخرى على الأقل لعقد أو أكثر من الزمن.
ثانيا، ليس من مصلحة السعودية الانحياز إلى أي جانب في الصراع الدائر بين القوى العظمى لأن القيام بذلك نتائجه وخيمة على اقتصادها. وعليه، ستتبنى المملكة سياسات تحافظ على مصالحها الاقتصادية والأمنية مع جميع الدول الكبرى دون الانحياز لأي طرف على حساب الطرف الآخر.
ثالثا، خلال العقد المقبل، ستكون السياسات الداخلية المحلية مثل “رؤية 2030” هي المحرك الرئيسي للسياسة الخارجية للسعودية حيث ستسعى المملكة إلى التعاون الاقتصادي والأمني مع جميع الدول التي تحترم سيادتها وأمنها ومصالحها الحيوية.
رابعا، الاستقرار والأمن والازدهار هي المكونات الرئيسية لسياسة المملكة الخارجية في منطقة الخليج ومنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا عموما بما في ذلك تجاه اليمن وإيران. وعلى الرغم من كل الانتقادات الموجهة إلى دور المملكة في اليمن، تسعى الرياض إلى حل للصراع في هذا البلد يقبله المجتمع الدولي، وهي تدعم جهود المبعوث الأممي الخاص في هذا الملف.
الصين أو الولايات المتحدة
مما لا شك فيه أن المرتكزات السياسة الجديدة للمملكة ستعرضها للضغوط الأميركية. المملكة من جهة لها مصالح أمنية حيوية مع الولايات المتحدة ومصالحها الاقتصادية حيوية بالقدر نفسه أيضا مع الصين. إن إحداث التوازن في العلاقة مع كلا البلدين ليس مسألة سهلة ولا توجد معادلات واضحة يمكن تطبيقها في هذا المجال. ستكون هناك خسائر أثناء السعي إلى إحداث التوازن في العلاقات مع البلدين، لكن على المملكة أن تدرك أنها عملية تَعلُّم وأن الافادة من الأخطاء ضرورة لتجنب تكرارها.
هناك بلا شك عدد من الحقائق التي يجب عدم تجاهلها أثناء السعي إلى إحداث هذا التوازن:
أولا، لا تستطيع الصين في المدى المنظور أخذ المكانة الأمنية للولايات المتحدة في منطقة الخليج. الصين بلا قواعد عسكرية في منطقة الخليج وعلى الرغم من وجود مصلحة كبرى لها في “خليج عربي آمن” لاستمرار تدفق النفط والغاز إليها، إلا أن اولويتها الأمنية هي محيطها الجغرافي الذي تتصارع فيه مع اليابان والولايات المتحدة والهند وحتى مع أوستراليا وكوريا الجنوبية. أضف إلى ذلك، أن الوجود الأمني الأميركي في منطقة الخليج يحقق لها هدف استقرار هذه المنطقة وبقاء تدفق النفط إليها دون أية تكاليف من جانبها في المقابل، وهي لذلك لا تسعى إلى الصراع مع الولايات المتحدة في هذه المنطقة.
ثانيا، علاقات إيران مع الصين ليست أقوى من علاقات المملكة معها وكل الضجيج الإعلامي عن وجود تعاون استراتيجي بين البلدين غير حقيقي وهو مرهون برفع العقوبات الاقتصادية عن إيران. الصين تخشى أن تطالها العقوبات الاقتصادية الأميركية فيما لو طورت تعاونها مع إيران، في الوقت الذي تسعى فيه إلى تطوير علاقات متقدمة مع المملكة وهذا ما نشاهده من شراكات بين البلدين في مجال التكنولوجيا والاقمار الصناعية والمُسيّرات وحتى في التعاون بين الجامعات في البلدين.
ثالثا، ستتعرض المملكة بالتأكيد لضغوط من الولايات المتحدة لتقليص علاقاتها مع الصين، لكن هنالك حدودا لحجم الضغوط التي يمكن أن تمارسها على المملكة لأن الاقتصاد العالمي يعتمد على النفط السعودي وهي لها مصلحة في بقاء تدفقه الى الأسواق العالمية خصوصا في ظل الصراع الحالي مع روسيا، وهذا ما يوفر فرصة للحفاظ على سياسة التوازن التي تنتهجها المملكة بين القوى الكبرى دون دفع تكاليف باهظة مقابل ذلك.
مصالح واحترام
هذه التوجهات الجديدة في السياسات الخارجية للمملكة لها بالضرورة نتائج على علاقاتها مع الولايات المتحدة، وهي ستبذل جهدها لتقليل الاضرار في العلاقات بين البلدين. في هذا السياق، ستسعى المملكة إلى الحفاظ على علاقاتها الاستراتيجية والتاريخية مع الولايات المتحدة على أساس الاحترام المتبادل لمصالح البلدين. وهي ترى أن التجارة الحرة والأمن البحري والطاقة والتعدين ومكافحة الإرهاب مجالات مهمة للتعاون بين البلدين وهي مجالات تخدم مصالحهما المشتركة.
لكن، وعلى الرغم من حرص الرياض هذا على الحفاظ على علاقات قوية مع الولايات المتحدة، وبغض النظر عن الرئيس الذي يجلس في البيت الأبيض إن كان ديموقراطيا أم جمهوريا، فإن سياسات المملكة الخارجية ستنبثق من تصورها لأولوياتها ومن التغييرات البنيوية التي حدثت في البلدين. هذا يعني أن المملكة ستسعى الى تطوير علاقاتها التجارية والأمنية مع القوى الكبرى الأخرى في العالم وفي مقدمتها الصين.
تبعا لذلك، سيتعين على كل من واشنطن والرياض الاعتراف بأن سياسات كلا البلدين قد لا تتطابق أو تتقارب طوال الوقت بسبب تصوراتهما المختلفة لأولوياتهما. هذا لا ينبغي أن يجعلهما أعداء؛ بدلا من ذلك، سيحتاج البلدان إلى مواصلة الانخراط في حوار استراتيجي جاد لتقليل مجالات الخلاف بينهما قدر الإمكان. غني عن القول إن إنجاز هذا الهدف وتقريب وجهات النظر لن يكون عملا سهلا.