ليس تفصيلاً أن تعلن حركة حماس، وحركة الجهاد الإسلامي، وقوات الفجر (الذراع العسكري لـ”الجماعة الإسلامية”) تنفيذ عملياتٍ عسكرية من جنوب لبنان ضدّ إسرائيل، نصرةً لغزّة، في حين تُفاخر حركة أمل، ولها الحقّ بالفخر، بأن يعلن أحد نوابها، باسمها، أنّ الحركة “موجودة في جنوب لبنان عسكرياً ولوجستياً”، وأنّ “أيّ حماقة تقوم بها إسرائيل في الاعتداء على لبنان وتنفيذ هجوم برّي سنكون في طليعة المقاومين”.
هذا ما قاله النائب في كتلة الحركة، علي خريس، في حوار أجرته معه جريدة “الشرق الأوسط” السعودية ونُشر يوم السبت الماضي، وأضاف: “أمل جاهزة للمواجهة والدفاع إذا قامت إسرائيل بالاعتداء على لبنان وتنفيذ هجوم برّي… سنكون في طليعة المقاومين”.
قبلها قال الرئيس نبيه برّي، رئيس الحركة ورئيس مجلس النواب اللبناني، خلال مهرجان بذكرى تغييب الإمام موسى الصدر قبل شهرين من حرب غزّة، إنّ حركة أمل “بكلّ مستوياتها الجهادية معنيّة إلى جانب الحزب بأن يكون كلّ فرد منها فدائياً للدفاع عن حدود أرضنا المقدّسة”.
ها هو الرئيس برّي اليوم يستعيد مواقفه اللبنانية، ويضيف المزيد إلى رصيده الشعبي واللبناني والعربي والدولي، ضمن رؤيته لكيفية حماية لبنان، وكيفية حماية الشيعة والجنوب
هكذا بعث برّي، والنائب عن كتلته وجمهوره وجنوبه، بواسطة جريدة عربية، رسالة إلى العرب والعالم، ترسم خطّاً أحمرَ لطالما التزم به منذ 12 عاماً، وهو أنّ حركته، أمل، لبنانية، وأنّ “لبنان أوّلاً” وهو مسار لن يحيد عنه.
أمّا الرسالة الجديدة التي بعثها عبر خريس، بواسطة الجريدة السعودية، فهي أنّه على الرغم من قصف إسرائيل ما سمّته أمل “أحد مواقع الحركة في بلدة رب ثلاثين”، وهو ما أدّى إلى “استشهاد القيادي علي داوود وإصابة عنصرين”، وعلى الرغم من استهداف دبابة إسرائيلية سيارة لـ”كشافة الرسالة الإسلامية” التابعة للحركة وإصابة 4 مسعفين داخلها، فإنّ قرار برّي هو عدم الدخول في الحرب “على طريق القدس”، ذلك الطريق الذي به يُعَنْوِن الحزب بيانات نعي الشبّان الذين “يزفّهم” حين “يرتقون أثناء قيامهم بواجبهم الجهادي”.
أمل لم تشارك في الحرب السوريّة
لنتذكّر أنّه حين أعلن الحزب انخراطه في الحرب السورية، دفاعاً عن نظام الرئيس بشّار الأسد، بدأت صفحات معلومة – مجهولة تنعى مقاتلين قالت إنّهم من “أمل” سقطوا في هذه المدينة السورية أو تلك. لكنّ مسؤولين في الحركة أكّدوا بما لا يترك مجالاً للشكّ، في حوارات إعلامية، أنّ أمل لم ولن تشارك في تلك الحرب.
حتى إنّ برّي قال في خطابه السنوي، عام 2016، إنّ “ما يجري من قتال في سوريا يخدم إسرائيل”. وقد تعرّض للكثير من الضغوط ودفع الكثير من الأثمان السياسية، وهو لم يزُر سوريا منذ عام 2010، قبل 13 عاماً، حتّى إنّه حدّ من تنقّلاته كثيراً، وبات معتاداً على ممارسة رياضة المشي داخل المنزل، لأسباب أمنيّة.
حين حافظ الرئيس برّي على قراره بعدم دخول الحرب السورية، واعتبرها “تخدم إسرائيل”، حمى كثيرين من الشيعة الذين ما كانوا فرحين بسقوط آلاف الشبّان الشيعة دفاعاً عن نظام الأسد. وكان سنداً لمن اعترضوا على دخول الحزب تلك الحرب بشعارات مذهبية، في حين كان الدخول سياسياً وتنفيذاً لقرار إقليمي.
ها هو الرئيس برّي اليوم يستعيد مواقفه اللبنانية، ويضيف المزيد إلى رصيده الشعبي واللبناني والعربي والدولي، ضمن رؤيته لكيفية حماية لبنان، وكيفية حماية الشيعة والجنوب.
وسط كلّ هذا المشهد، يذكّرنا الرئيس برّي بأنّه في المنعطفات الكبيرة والقاسية والمميتة، هو لبناني، و”لبنان أوّلاً”، وأنّكَ يمكن أن تكون شيعياً ولبنانياً، معادياً لإسرائيل ومتضامناً مع فلسطين، وجاهزاً للدفاع عن أرضك “إذا قامت إسرائيل بالاعتداء على لبنان وتنفيذ هجوم برّي
نبيه برّي: الشيعيّ اللبنانيّ
إنّها المعمودية “الاستراتيجيّة” الثانية للرئيس برّي:
– الأولى عبَرها بنجاح، على الرغم من خطورتها، رافضاً الغوص في الدم العربي، وفي الحروب الأهلية العربية، على الرغم من الترغيب والترهيب، وعلى الرغم من المغريات والتهديدات. ونأى بنفسه، وبالشيعة اللبنانيين، داخل حركة أمل وخارجها، وقال لمن يريد أن يسمع إنّ شيعة لبنان ليسوا أعداء الشعب السوري، ولا أعداء العرب.
– أمّا المعموديّة الثانية، التي عبَر الشوط الأكبر منها حتّى الآن، فهي رفضه أن يكون لبنان ساحة أو صندوق بريد، أو “حماس لاند” جديدة. هو العارف أنّ جزءاً كبيراً من الرأي العام الشيعي، والجنوبي تحديداً، أيّد الحركة في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، ودخل في تنظيمها “أفواجاً”، اعتراضاً على تحويل الجنوب إلى منصّة فلسطينية لـ”فتح لاند”. وقد حاربت أمل الفلسطينيين حين رأت أنّهم يريدون لبنان ملعباً أمنيّاً لهم فوق مصالح الشيعة والجنوبيين واللبنانيين.
نبيه برّي هذا لا يزال يمسك العصا من الوسط. وما زال إلى اليوم جداراً عالياً يحمي الشيعة اللبنانيين، ويترك لهم مقعداً في صالونات العرب، ويشكّل صلة وصل بينهم وبين المجتمعين العربي والدولي، لئلا يصيروا “كتلة واحدة” متّهمة بالدم العربي من جهة، وبانتهاك المواثيق والقرارات الدولية من جهة أخرى.
خارج “وحدة الساحات”
يعرف القاصي والداني أنّ الحرب التي افتتحها الحزب في الجنوب عنوانها “نصرةً لغزّة”. وهذا واضح في بيانات الحزب، واستعماله عبارة “على طريق القدس”، وليس “على طريق الجنوب” أو “على طريق لبنان”.
يعرف أيضاً القاصي والداني أنّ المعركة اليوم هي بين محورين، أحدهما الغرب كلّه، ووراءه مَن وراءه، من الأقربين والأبعدين، من المنطقة إلى أوروبا وصولاً إلى كندا وأميركا… وحركة أمل ليست بمواجهة كلّ هؤلاء، وإن كانت تناصر قضية فلسطين، بما تيسّر من “لبنانية” تشبه دعم كلّ اللبنانيين لفلسطين.
هكذا بقيت أمل خارج نظرية “وحدة الساحات”. أي أنّها تعترض على وضع كلّ شيعة لبنان في كفّة واحدة، إلى جانب أحلام إمبراطوريّة بالسيطرة على المنطقة، تمهيداً للسيطرة على العالم، بدماء شيعة الجنوب والبقاع والضاحية وحدهم، وصواريخ اليمن البعيد التي تسقط في البحر، وسط هدوء صارخ على جبهة آل الأسد الذين خسر شيعة لبنان الآلاف من شبابهم دفاعاً عنهم، وفي غياب أيّ دعم عراقي أو إيراني مباشر أو جدّي، كأنّ “وحدة الساحات” تعني “دماء اللبنانيين”، شيعة كانوا أو غير شيعة.
وسط كلّ هذا المشهد، يذكّرنا الرئيس برّي بأنّه في المنعطفات الكبيرة والقاسية والمميتة، هو لبناني، و”لبنان أوّلاً”، وأنّكَ يمكن أن تكون شيعياً ولبنانياً، معادياً لإسرائيل ومتضامناً مع فلسطين، وجاهزاً للدفاع عن أرضك “إذا قامت إسرائيل بالاعتداء على لبنان وتنفيذ هجوم برّي… وسنكون في طليعة المقاومين”، لكن من دون أن تفتح جبهة الجنوب، وتزّج أهل الجنوب وقراهم وبيوتهم ومحاصيلهم ومستقبل أولادهم، في معركة أرباحها الوحيدة هي حماية مصداقية خطابٍ و”منطقٍ”، ثَبُتَ أنّه بدل أن يحمي الدماء، بات يحتاج إلى الدماء لحمايته.