(نتطلّع بأمل كبير بأن يكون هذا اليوم الذي ندشّن فيه مبنى جديدا للسفارة الإيرانية في بيروت بارقة أمل ليس ببعيدة، نحتفل فيه بعودة العلاقات بين الجمهورية الإسلامية الإيرانية مع محيطها العربي والإسلامي، وخاصة مع المملكة العربية السعودية في سياقها الطبيعي..).
هذا ما قاله الرّئيس نبيه برّي في 8/2/2023 يوم افتتاح السّفارة الإيرانيّة في بيروت، وعلى منطق التّفاهم لا التّصادم كان يراهن، وينقل مقرّبون من برّي ارتياحه الشّديد وتفاؤله الكبير بإعلان كلّ من الرّياض وطهران عودة العلاقات إلى طبيعتها لانعكاس ذلك على المنطقة برمّتها، فهل ربح الرّهان؟
لم تهدأ الأقلام والأصوات منذ أعلن رئيس المجلس، للمرّة الأولى، تأييده ترشيح سليمان فرنجيّة لرئاسة الجمهوريّة، حبر كثير سال وأفكار كثيرة طُرحت وتحليلات شطحت حدّ اعتبار «برّي أحرق فرنجيّه» أو أنّ رئيس المجلس استعجل وأحرج حليفه في بيئته.
أمّا العارفون بحكمة برّي وحنكته فكانوا يقرأون ويسمعون بصمت وابتسام لعلمهم بأنّ الرّجل العتيق يحسب كلماته بالنّقاط والفواصل ويركن مواقفه عند المنعطفات والمفاصل، ولولا علمه بمعطيات إيجابيّة آتية من الإقليم لما أقدم على خطوة جريئة كتلك، وهو الّذي يخوض ويقود معركة «فرنجيّه» متسلّحاً بتاريخ سياسيّ طويل قلّت أو ندرت فيه هزائمُه، فمن الصّعب الافتراض بأن يدخل معركة غير محسوبة أو ربّما محسومة النّتائج.
ولعلّ خبر عودة العلاقات السّعوديّة – الإيرانيّة يجيب عن السّؤال الّذي حيّر المتابعين: «لماذا أعلن برّي تأييد فرنجيّة قبل أن يترشّح صاحب العلاقة»؟!
وللتّذكير، فإنّ صلب الخطاب الّذي ألقاه الرّئيس نبيه برّي في افتتاح السّفارة الإيرانية في بيروت الشّهر الماضي ركّز على ضرورة عودة العلاقات الإيرانيّة – السّعوديّة إلى طبيعتها لما في ذلك من مصلحة مشتركة للبلدين وللمنطقة برمّتها.
وفيما التزم برّي الصّمت بعدما فجّر قنبلة تأييد فرنجيّه، أتت ردود الأفعال على موقفه وموقف السّيّد حسن نصرالله بعده، دون مستوى التّحدّيات والأزمات الّتي يرزح تحتها لبنان واللّبنانيّون، فظهر معارضو برّي كالمراهقين السّياسيين الّذي يتنافسون على رفع سقوف المواقف الّتي لا تغني ولا تسمن من جوع، في الوقت الّذي غابت فيه كلّ المعايير الدّستوريّة والقانونيّة وحتّى الأخلاقيّة في مقاربة مساّلة جوهريّة كرئاسة الجمهوريّة في لحظات الإنهيار المريع.
ولأنّ العقل التّبريري حاكمٌ، استسهل هؤلاء لحس مواقفهم بين ليلة وضحاها، فبينما كان التّعطيل جريمة وخيانة يُرمى بها الثّنائي صار نزاهة وبطولة يفاخر بها خصومهم لمجرّد احتمال تأمين الأصوات الكافية لوصول سليمان فرنجيّة إلى سدة الرّئاسة.
وازدادت نشوة هؤلاء بعد تغريدة السّفير البخاري الّتي قرأوا فيها موقفاً قاطعاً برفض المملكة لفرنجيّة، فيما كانت لغته مبهمة وإيحائيّة وحمّالة أوجه تُفهم في عدّة اتّجاهات، ولو كان للسّعوديّة موقف كهذا لعبّرت عنه صراحة في اللّقاء الخماسيّ أو في اللّقاءات الثّنائيّة، خصوصا مع المعاون السّياسي للرّئيس نبيه برّي، وهذا ما لم يحصل يوماً.
أضف أنّ الرّئيس برّي طالب ممثّلي الدّول الخمس المعنيّة بالشّأن اللّبناني بأن يساعدوا على الحلّ وأن لا يسعوا إلى فرض إسم أو وضع فيتو على آخر، وأعاد عليهم المواصفات الّتي ذكرها في ذكرى تغييب الإمام الصّدر في صور وأضاف إليها الموضوعات الأكثر إلحاحاً (معالجة قضيّة النّازحين السّوريين/ الاستراتيجيّة الدّفاعيّة/ ترسيم الحدود البحريّة الشّماليّة/ عودة العلاقات اللّبنانيّة – العربيّة/ الحفاظ على الطّائف واستكمال تطبيق بنوده) كان برّي مسشعراً خطورة المراهقات السّياسيّة والمغامرات الوطنيّة الّتي تُمارس في بازار المزايدات الطّائفيّة، بدءاً من تعطيل الحوار ثمّ تحويل الجلسات إلى مسرحيّة استعراضيّة هزليّة وصولاً إلى التّهديد بتعطيل نصاب جلسات الانتخاب بدل ملاقاته إلى منتصف الطّريق والإنتقال إلى مرحلة التّسمية الجدّيّة وتحويل الاستحقاق الرّئاسيّ إلى عرس ديموقراطي، كما يحلو لبرّي أن يصفه، يهنّئ فيه الخاسرُ الرّابحَ ولو بفارق صوت واحد..
«الكنيسة القريبة ما بتشفي» يستخدم برّي هذا المثل، لتوصيف مرحلة ما قبل اتّفاق الدّوحة عام 2008 يوم رفضت قوى 14 آذار دعوة برّي إلى الحوار وقبلتها من دولة قطر مع أنّ بنود الحوار نفسها، ولكنّ مصادر قريبة من الثّنائي تستغرب تغافل هؤلاء عمّا يحيط بنا من أزمات وتحوّلات، أو أنّهم يعلمون ويراهنون على تغيّر في موازين القوى، فهذا ضرب من الجنون.
على أيّ حال، في معلومات خاصّة باللّواء فإنّ وزيري خارجيّة السّعوديّة وإيران سيلتقيان خلال الأسبوعين المقبلين، وانطلاقاً من هذه الخطوة المفصليّة ستستكمل سياسية تصفير المشاكل وحلحلة العقد الإقليميّة والعربيّة العربيّة، وخطّ «السّين سين» سيعود من جديد بحلّة جديدة، وفي كلّ الأحوال ستنعكس الأمور إيجاباً على ساحات التّشابك السّياسي من اليمن إلى العراق ولبنان.
من وجهة نظر برّي، حسب مقرّبين من عين التّينة، طرْح فرنجيّة يأتي في سياق مشروع التّقارب العربي – العربي والعربي – الإيراني، ولهذه الإعتبارات يتمسّك الثّنائي بفرنجيّة، لا تحدّياً ولا استقواءً، بل إيماناً بأنّ لبنان لا يُحكم إلّا بالتّوافق الدّاخليّ ولا يستقرّ إلّا بالتّقارب الإقليميّ.