سقطت كلّ المعايير السّياسيّة والأخلاقيّة على مذبح رئاسة الجمهوريّة، فلا مراعاة لأصول التّخاطب ولا احترام لكرامات الأشخاص والدّول ولا اعتبار لأبسط قواعد التّنافس السّياسي، والأيّام القليلة الماضية شهدت مستوى طائفيًّا وعنصريًّا غير مسبوق، واستدعاءً للغة الحرب وأدبيّاتها المقيتة كرمى لكرسيّ الرّئاس.
ومَن تابع بعض الصّحف وعناوينها ونشرات الأخبار ومقدّماتها يدرك حجم التّزوير والتّشويش الّذي أحيط بزيارة رئيس تيّار المردة إلى باريس بدعوة مستشار شمال أفريقيا والشّرق الأوسط في الرئاسة الفرنسية باتريك دوريل.
ورغم كلّ محاولات التّوهين بالرّجل وحظوظه إلّا أنّه بالصّمت المعبّر، وبقي مرشّحاً جدّيًّا وقويًّا بمباركة، وربّما تأييد، فرنسيّة علنيّة وبعدم رفض، وربّما قبول ضمنيّ سعودي، بدليل أنّ باريس تعمل على نقل التّطمينات وأخذ الضّمانات إلى الرّياض، ولو كانت تضع فيتو على فرنجيّة، كما يدّعي بعض اللّبنانيين، لما تكبّد دوريل وفريقه هذا العناء والمشقّة.
وفي سياق الحملة، قال برّي: «ليس لدينا خطّة بديلة ولا نساوم؛ فنحن مع فرنجية منذ عام ٢٠١٦».
الآلة الإعلاميّة نفسها الّتي تستهدف فرنجيّة كثر الحديث عن زيارة الموفد القطري إلى بيروت ولقائه عدداً من القيادات اللّبنانيّة، فحاولت الآلة الإعلاميّة نفسها تصويره كمروّجٍ لقائد الجيش «جوزف عون» وبأنّه جاء ليقطع الطّريق على فرنجيّة، إلى أن حطّ في «بنشعي» وأجرى لقاءً ودّيًّا وإيجابيًّا في شكله ومضمونه، ولم يتعدّ الحديث حدود التّأكيد على خطورة الأزمة وتداعياتها وضرورة المسارعة بانتخاب رئيس للجمهوريّة والبدء في عمليّة الإصلاح والنّهوض.
هذا الكلام سمعه أيضاً رئيس مجلس النّوّاب نبيه برّي من الموفد القطريّ، حسب مصادر قريبة من عين التّينة، الّذي أكّد بأنّ اللّقاء كان إيجابيًّا، ولم يتطرّق القطريّون إلى أسماء المرشّحين لا تزكية ولا رفضاً لأحد، وقالت المصادر بأنّ برّي يتطلع إلى أداء دور أكثر فاعليّة كونهم (أي القطريين) على تواصل مع مختلف الأفرقاء الفاعلين وقد تمنّى عليهم ذلك.
المصادر نفسها تشير إلى أنّ برّي مطمئنّ إلى نتائج زيارة حليفه فرنجيّة إلى باريس، فهو يرى بأنّ ما طرحه سابقاً في ذكرى تغييب الإمام موسى الصّدر في صور وكرّره أمام سفراء الدّول الخمس، الّذين زاروه عقب اجتماعهم في باريس، يتطابق مع المواصفات الّتي تطرحها المملكة العربيّة السّعوديّة لرئيس الجمهوريّة، ولذلك قال لـ«اللّواء» قبل أسبوعين: «لا بدّ من التّوافق مع المملكة حول الخيار الرّئاسي».
وعند هذه النّقطة يتوقّف أحد المتابعين التّابعين للثّنائي الشّيعي فيقول: ما بين الرّئيس بري والمملكة العربيّة السّعوديّة قواسم مشتركة وهواجس كثيرة لعلّ أبرزها الاتّفاق على ضرورة حماية الطّائف ونبذ الخطابات العنصريّة والتّحريضيّة، ومن يقرأ كتاب «الثّقب الأسود» يعي حقيقة الفهم المشترك لمصالح لبنان وشعبه وقدره التّاريخي والجغرافي بارتباطه بمحيطه العربي والإسلامي.
وردًّا على سيل المقالات والتّحليلات الّتي اتّهمت برّي بحرق ورقة فرنجيّة عندما سارع إلى دعم ترشيحه قبل ترشيح الأخير نفسه يُنقل عن برّي قوله: ليس لدينا خطّة بديلة ولا مرشّح مضمر ولا نساوم على قناعاتنا، أنا، والكلام نقلاً عن برّي، أنا مع فرنجيّة منذ العام 2016 منذ كان أحد الأقوياء الأربعة باعتراف سياسيّ ومباركة كنسيّة، وبأنّه مسيحيّ مارونيّ 24 قيراط وكامل الأوصاف، «ومش على علمي تغيّر». وعندما طلبوا مني ترشيح ثلاثة أسماء قلت نعم لدّي ثلاثة وكرّرت اسم فرنجيّة ثلاث مرّات, بالمناسبة «فرنجيّة ما بيقربني» ولكنّه وطنيّ أبًا عن جد وله في الوجدان المسيحي والوطني ما ليس لغيّره.
وفي حين يستغرب مراقبون التّصعيد المبالغ فيه من قبل رئيس حزب القوات اللّبنانيّة سمير جعجع الّذي يغرّد خارج سرب التّهدئة والتّسوية الّذي يجتاح المنطقة تنقل المصادر عن برّي: «وما الغريب في سلوك جعجع، فهو منذ سنوات لا يشارك في الحكومات ولا يسمّي رئيسها ولا ينتخب رئيس البرلمان ويحاول اليوم تعطيل عمل مجلس النّوّاب ولجانه المشتركة ويتعامل بسلبيّة مع مختلف القضايا الوطنيّة، لكن الخطير المستجدّ تكرار الحديث عن الفدرلة والتّقسيم، هذا خطاب مؤسف ومقلق، ليس خوفاً من تحقّق هذا الوهم، بل لما سيدفعه اللّبنانيّون جرّاء مغامرة غير محسوبة من هذا النّوع».
في سياق متّصل يتوقّف كثيرون عند الّصعيد الّذي يمارسه جعجع ويرونه في وجه المملكة العربيّة السّعوديّة، فهو يشعر بالقلق من مآلات التّسوية مع إيران وهو الّذي بنى خطابه على أساس المواجهة والتّصعيد وتقديم نفسه رأس حربة في مواجهة «المشروع الإيراني» في لبنان، فإذا به أمام حقيقة المصالحة التّاريخيّة بين «الجارين اللّدودين» فلم يستطع حتّى الآن تجرّع كأس التّفاهم وهو الّذي ألِف نكهة التّصادم.
فالصّيغة الّتي هدّد جعجع بتغييرها هي صيغة الطّائف، والطّائف أيقونة السّياسة الخارجيّة السّعوديّة، وحتماً تشعر المملكة بالقلق والامتعاض من استعادة الخطاب الطّائفي، وإذا كان البعض يظنّ بأنّ مواقف جعجع منسّقة مع قيادة المملكة لتحسين شروط التّفاوض مع إيران فهو واهم، لأنّ القرار التّاريخي والاستراتيجيّ الّذي أخذته قيادة المملكة أكبر من أن يعكّره فريق من هنا أو هناك وتجارب الماضي القريب ماثلة أمامنا بأشخاصها أنفسهم الّذين لم يحسنوا قراءة المتغيّرات الإقليميّة والدّوليّة نهاية الثّمانينات فدفعوا ثمناً باهظاً على المستويين الشّخصي والعام..
فهل يفعلها «الحكيم» مجدّداً ويُدخل لبنان ثانيةً في أتون مغامرة أخرى خاسرة حتماً؟!
الأشهر القليلة القادمة حبلى بالتّطوّرات، وقد تلد رئيساً في لبنان قبل القمّة العربيّة في الرّياض، فوليّ العهد السّعوديّ محمّد بن سلمان يطمح إلى عقد قمّة مكتملة الرّؤساء، فهل ينجح؟!
ربّما..