كان لقاء بكركي، الذي جمع بين بعض القوى المسيحية، محاولة وضع إطار سياسي عام لتحديد مسارات المرحلة المقبلة. وعلى الرغم من تقليل أهمية هذا اللقاء أو نتائجه وانعكاساتها على الوقائع الداخلية، إلا أنه لا يمكن الاستخفاف برمزية إصدار أوراق او وثائق سياسية يتفق عليها المجتمعون، الذين تنوعت الآراء حول اجتماعاتهم، بين من يضعها في خانة اللقاء المسيحي، ومن يريد توسيع إطارها ومنحها بعداً وطنياً. بمعزل عن كل هذه التفسيرات والتفاصيل، يبقى الأساس في مراقبة المسيحيين لكل التطورات التي تشهدها المنطقة. هم لا يريدون أن يكونوا هامشيين في المعادلات التي يجري تركيبها. فهناك من يسعى بينهم إلى تجاوز مسألة الانقسام التي تتسلط عليهم، للخروج إلى رحاب أوسع. يحاول بعضهم استعادة أدوار تاريخية اضطلع بها المسيحيون منذ الثورة العربية، إلى ولادة لبنان الكبير. فيما هناك عتب كبير حالياً على عدم ارتقاء رؤاهم حالياً إلى ما كان عليه وضعهم سابقاً.
التعايش مع الاستضعاف
تقبع بعض القوى المسيحية منذ حقبة ما بعد الحرب الأهلية وما بعد انسحاب سوريا من لبنان، في حالة التعايش مع الاستضعاف والحقوق المهدورة والسعي الدائم لتحقيقها. وهو الخطاب الذي حمله التيار الوطني الحرّ في خضم معركته بوجه القوى المسيحية الأخرى، على اساس الانقسام الذي كان سائداً يومها بين قوى 14 آذار وقوى 8 آذار. فيما كان موقف القوات اللبنانية والقوى الأخرى الحليفة ذات بعد يظهر وكأنه خارج هذه الشرنقة، والمتماهي مع مشروع سياسي ببعده الوطني وبعده العربي أيضاً، وهو ما تواصل في فترة اندلاع الربيع العربي. تكرس الانقسام بين القوى المسيحية طوال فترة الربيع العربي على أساس الانقسام السياسي والذي غُلّف بأبعاد “المزايدة المسيحية”.
عاد الطرفان الأكبر، أي القوات والتيار الوطني الحرّ، إلى لحظة الإلتقاء على انتخاب ميشال عون رئيساً للجمهورية، فيما عارضه الكتائب والمردة. لكن الالتقاء لم يدم طويلاً، فانفجرت العلاقة بين الطرفين المسيحيين الأكبر، لصالح تقاطع مصالح بين التيار الوطني الحرّ، والطرف السني الأكبر، بالإضافة إلى العلاقة التحالفية مع حزب الله. حاول التيار الوطني الحرّ يومها الاستفادة من هذا الظرف لإضعاف الآخرين، وصولاً إلى ما قاله جبران باسيل ذات يوم من العام 2019 حول الاستعداد لقلب الطاولة على الجميع. انتهى عهد عون على خلاف بين التيار وحزب الله. أخذ الخلاف بالتزايد ولا يزال مستمراً إلى اليوم. فيما تشهد المنطقة تحولات كبرى بدأت بالتقارب السعودي الإيراني، وبالبحث عن مرحلة ما بعد الحرب على غزة، التي يسعى فيها كل طرف إقليمي إلى تكريس دوره بناء على تقاطعات إقليمية ودولية، وبالوقت نفسه الحفاظ على مواقع حلفائه في دولهم وتكريس أدوارهم.
ما يريده التيار
التقارب الإيراني السعودي، وانعكاساته على دول المنطقة ككل، يضع المسيحيين مجدداً أمام دراسة هذه التحولات ومواقعهم فيها. ليس فقط انطلاقاً من الالتقاء في بكركي على وثيقة سياسية، ولا بالتقاء بعضهم على معارضة انتخاب سليمان فرنجية لرئاسة الجمهورية.. إنما كيفية مواكبة التطورات وحفظ دورهم فيها، وسط انقلاب في الأدوار عما كان عليه الوضع سابقاً، حين كان تركيز التيار الوطني الحرّ على خطاب حقوق المسيحيين والدخول إلى الدولة ومؤسساتها، انطلاقاً من التحالف مع حزب الله، مقابل انخراط القوات والكتائب ضمن مشروع 14 آذار بأبعاده الأوسع.. ليصبح الواقع حالياً، هو تشديد وتركيز القوات والكتائب على مسألة “الانفصال عن جمهورية حزب الله”. ما يشير إلى اليأس من طموحات بناء مشروع وطني أوسع. وليبقى سعي التيار الوطني الحرّ والذي يتمايز ويختلف مع حزب الله، في البحث عن تقاطعات داخلية وخارجية مع القوى المختلفة.
وهذا ما يقوم به التيار، بعد عمليات إعادة مراجعة سياسية أجراها رئيسه جبران باسيل، فذهب إلى اتخاذ مواقف تتعارض مع حزب الله، وتفتح الطريق له إلى التقاء سياسي مع قوى أخرى. وهذا ما يعكف التيار الوطني الحر على السعي إلى تكريسه، بفتح أبواب الحوار مع غالبية القوى الداخلية، أولاً من خلال الإبقاء على قناة الاتصال مع رئيس مجلس النواب نبيه بري، بالإضافة إلى عدم قطع الإتصال مع حزب الله، في مقابل السعي إلى تعزيز العلاقة مع بعض القوى السنية من خلال كتل أو شخصيات متنوعة، والانفتاح على القوى المسيحية، بالإضافة إلى سعي لإرساء نوع من بعض التقاطعات أو التفاهمات مع الحزب التقدمي الاشتراكي.
في هذا السياق، يظهر التيار الوطني الحر براغماتية، غايتها مواكبة التحولات الحاصلة في المنطقة. وهو يقدم فذلكة أساسية لرؤيته تنم عن الالتقاء بين القوى التي كانت متخاصمة في المنطقة. وعليه، لا بد للمتخاصمين داخل لبنان أن يواكبوا هذه التقاطعات، ولا بد للمسيحيين من القيام بذلك أيضاً. فإلى جانب انفتاح التيار على القوى المختلفة في الداخل، هو لا يكف عن السعي إلى فتح أبوابه عربياً وباتجاهات متعددة أيضاً.
يفرض هذا التحرك تحدياً من نوع جديد على الساحة المسيحية بين القوى المختلفة، ما يجعل القوى الأخرى من القوات إلى الكتائب وتيار المردة مضطرة إلى اعتماد مسلك جديد في التحركات، إما على الخطّ الداخلي أو على الخط الخارجي.