ثلاثة لاعبين على حلبة الصراع من لبنان إلى غزة. يخوضون معارك معقّدة وفقاً لأجندات لا سبيل فيها للتراجع. هي أجندات مغلقة باتّجاه قيام دولة فلسطينية. كلّ ما في هذه المواجهة مفتوح على مصراعيه، والأمر رهن الميدان ولا شيء غير الميدان.
اللاعبون المباشرون على الحلبة هم السنوار في غزة، وحسن نصر الله في جنوب لبنان، ونتنياهو في إسرائيل.
هؤلاء الثلاثة يديرون معارك معقّدة وغزيرة الخسائر، ولكلّ واحد منهم أجندة يبدو تحقيقها كالتراجع عنها أمراً في غاية الصعوبة.
أخذ السنوار على عاتقه موقعة السابع من أكتوبر (تشرين الأول)، فلم يحرج أيّ طرف خارجي، ولو بمجرّد الحديث عن التنسيق معه، فأراح بذلك جبهة الممانعة وأيقونتها “وحدة الساحات“، ومنح إيران والحزب المساحة الكافية للمناورة والعمل، كلٌّ حسب أجنداته الخاصة وحساباته.
الصداع المؤلم
اختار السيد حسن نصر الله “التدخّل التضامنيّ” بالحدود المسموح بها لبنانياً أوّلاً، وإسرائيلياً ثانياً، وأميركياً وإيرانياً دائماً.
في غزة
على مدى شهور الحرب أثبت تدخّل الحزب قدراً لا بأس به من التأثير، إذ أنتج صداعاً مؤلماً لصنّاع القرار في إسرائيل، جرّاء نزوح مئات الآلاف من مستوطنات “غلاف الجليل”، إضافة إلى نزوح مثلهم من غلاف غزة، وهو ما وضع إسرائيل أمام حرب مزدوجة فرضت عليها، إمّا مواصلة الإدارة المحدّدة لها، أو التوسّع بها إلى حافة الحرب الإقليمية. ففي إسرائيل من يقترح بل ويصرّ على دمج جنوب لبنان بجنوب فلسطين وليكن ما يكون.
السنوار الذي وضع نقطة الانطلاق لكلّ ما هو حاصل الآن، ومع أنّ الحرب وصلت إلى معقله الأساسي ووضعته على المهداف حيّاً أو ميتاً، إلا أنّه لا يمتلك أيّ مساحة لتنازلٍ تريده إسرائيل، وحتى لو عرضت عليه المغادرة إلى أيّ مكان فخياره ورجاله تحت الأرض ومن فوقها.. القتال، فإمّا النصر وإمّا الشهادة، وخيار كهذا يبدو غير قابل لتسويات.
اللاعبون المباشرون على الحلبة هم السنوار في غزة، وحسن نصر الله في جنوب لبنان، ونتنياهو في إسرائيل
السيد حسن نصر الله لم يكن اليوم الأخير بالنسبة له كاليوم الأوّل، فما الذي يجري الآن؟ لقد انتقل قرار توسيع الحرب إلى يد إسرائيل، وإذا كانت لم تضع بعد تصوّرها لما بعد الحرب على غزة وفق العنوان الأميركي المفضّل “اليوم التالي“، فهي وضعت تصوّرها لما تريد على جبهة جنوب لبنان، على هيئة مطالب محدّدة اعتبرت الرضوخ لها شرطاً كي لا تقوم بعمل عسكري شامل ولا خطوط حمر عليه في جغرافية لبنان كلّه، ومثلما قيّدت نفسها بشعار النصر المطلق على غزة كشرط لإنهاء الحرب، فها هي تضع القيد ذاته في شأن جنوب لبنان، إذ ينبغي أن يعود النازحون من مستوطنات غلاف الجليل إلى بيوتهم، لكن هذه المرّة ليس وفق تفاهمات قديمة بل بمغادرة قوات الحزب إلى ما وراء الليطاني.
يعمل الوسطاء تحت ضغط رفض الحزب لمطلب كهذا، وضغط إصرار إسرائيل على تلبيته كشرط.
الأجندات المغلقة
منطقياً يرى الحزب أنّ معه كلّ الحقّ، فقوّاته تقف على حدود بلده، ثمّ ما هو مصير مئات آلاف الصواريخ الدقيقة، التي يملكها الحزب والتي يصل مداها إلى ما بعد بعد حيفا!
هل يكون المطلب الإسرائيلي التالي تفكيكها مثلما هو مطلبها بشأن أنفاق وسلاح غزة؟
لا حلّ سهلاً في وضع كهذا، فلا الحزب يهضم فكرة العودة إلى ما وراء الليطاني، بعدما كان يتحدّث عن احتلال الجليل، ولا إسرائيل في وارد ابتلاع المهجّرين المتكدّسين في الوسط ولن يعودوا إلا إذا ضمنوا أن لا تهديد لحياتهم ومساكنهم.
اجندات الأطراف الثلاثة التي تخوض الحرب المباشرة تبدو مغلقة تماماً على الوسطاء الذين يجيدون الحديث عمّا ينبغي أن يُعمل دون التقدّم ولو خطوة واحدة نحو ما يُعمل بالفعل.
مثلما هو الوقت في غزة عامل فتك بالناس الذين يترقّبون حسم الأجندات كذلك هو في جنوب لبنان وفي إسرائيل
في غزة يتحدّثون عن تسوية تُقام من خلالها دولة فلسطينية، كما لو أنّ ما يجري من مذابح ودمار هو من أجل إقامتها! وفي لبنان يجري حديث عن ترسيم الحدود البرّية على غرار البحرية، وفي كلتا الحالتين تبدو أجندة كلّ طرف بعيدة عن أجندات الوسطاء إلا إذا كان وراء الأكمة ما لا نعرف.
مثلما هو الوقت في غزة عامل فتك بالناس الذين يترقّبون حسم الأجندات كذلك هو في جنوب لبنان وفي إسرائيل.
في الأيام القليلة الماضية اتّسع نطاق الحرب على الجبهة الشمالية. كانت التقديرات المتداولة تستبعد الاتّساع وفق مقولة أن لا أحد يرغب في ذلك، غير أنّ ما ينبغي الانتباه إليه هو أنّ مفاجآت الميدان تفرض نفسها على المسارات السياسية، فلو قُتل في صفد مثلاً عشرات من الإسرائيليين ولو بمحض الصدفة أو بما يشبه ولو قليلاً ما حدث في السابع من أكتوبر، فساعتئذ يتغيّر المشهد كلّه، وهذا هو الحال.