في مقابل الحراك الدولي والداخلي الناشط بكلّ الاتّجاهات، جنوباً ورئاسيّاً ونزوحاً سوريّاً، تؤكّد أوساط مطّلعة لـ “أساس” أنّ تحرّكات الدول المعنيّة بخفض التصعيد على الحدود اللبنانية-الإسرائيلية وبإحداث خرق في الملفّ الرئاسي لن تتمكّن من تغيير معادلة محكومة بأربع لاءات: لا انسحاب لعناصر الحزب من جنوب الليطاني، لا فصل بين غزّة وبيروت، لا رئيس للجمهورية لا يمرّ بالضاحية ولا حلّ راهناً للنزوح السوريّ.
بعد ثلاثة لقاءات للّجنة الخماسية مع الرئيس برّي، آخرها يوم أمس، وما بينها من لقاءات مع القوى السياسية المتخاصمة رئاسيّاً، لم يَحِد سفراء الولايات المتحدة الأميركية وفرنسا والسعودية وقطر ومصر عن الخطّ الذي رسمته اللجنة لنفسها لناحية عدم “زرك” اللبنانيين باسم أو سلّة أسماء، لكنّ الإضافة الأساسية تُرجمت في الرهان بشكل أكبر على دورٍ مساعدٍ لرئيس مجلس النواب يتيح نزع الأعذار من الفريق “المقاوِم” لجلسات حوار بقيادة برّي الملتزم حتى إشعار آخر بتبنّي ترشيح سليمان فرنجية لرئاسة الجمهورية إلى جانب الحزب.
قدّم أمس السفير المصري علاء موسى موجزاً لخلفيّة تحرّك الخماسية: “التسهيل بين الأطراف لتقريب وجهات النظر والردّ على استفساراتها”، ذاهباً كعادته نحو الإفراط في الإيجابية، معتبراً اللقاء مع برّي “خطوة إيجابية يمكن البناء عليها وصولاً إلى انتخاب الرئيس”.
في السياق نفسه تفيد معلومات “أساس” بأنّ الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون بعد لقاءاته مع رئيس الحكومة وقائد الجيش أبلغ برّي شخصياً عبر اتصال هاتفي تعويله على دور رئيس مجلس النواب في كسر الحلقة المفرغة التي تحاصر استحقاق الرئاسة منذ عدّة أشهر، فيما أبلغ الرئيس الفرنسي ميقاتي في لقاء باريس بأنّ اتفاق القوى المسيحية على مرشّح يُسهِم في إحداث خرق كبير في الجدار الرئاسي، مع ضرورة تفهّم القوى الأخرى للخيار المسيحي في هذا الملفّ.
بعد ثلاثة لقاءات للّجنة الخماسية مع الرئيس برّي، آخرها يوم أمس، وما بينها من لقاءات مع القوى السياسية المتخاصمة رئاسيّاً
لكن يمكن الجزم أنّ مروحة الحراك لقوى لبنانية في الخارج، والحديث المتزايد عن توسيع رقعة التنسيق الأميركي-الفرنسي، والتفاؤل الذي يبثّه بعض سفراء اللجنة الخماسية، وما قيل عن تعديل شكليّ في مبادرة “كتلة الاعتدال”، كلّها عوامل لم تُسهِم حتى الآن في دفع الاستحقاق الرئاسي خطوة إلى الأمام، خصوصاً أنّ الترتيبات الأمنيّة على الحدود اللبنانية-الإسرائيلية تستهلك الوقت الأكبر من جهد رعاة الحلّ في لبنان، باعتبار التهدئة مطلباً ملحّاً وكونها تشكّل المدخل الطبيعي والمسهّل لتمرير كلّ الاستحقاقات الدستورية والماليّة.
أمّا الجهد الدولي المضادّ فيتركّز، وفق مصدر دبلوماسي لبناني، على محاولة لجم “الانتفاضة” اللبنانية الرسمية وغير الرسمية من أجل ترحيل النازحين السوريين، إذ إنّ القرار الأممي لا يزال يضغط لبقائهم في مناطق تمدّدهم، وهذا الأمر قد يترجَم في مؤتمر بروكسل في أيار المقبل، حيث سيتبيّن مصير الطلب اللبناني من الاتّحاد الأوروبي تغيير تصنيف سوريا باعتبارها بلداً غير آمن ووقف المساعدات التي تُمنح للسوريين في مناطق النزوح، إضافة إلى آليّة تعامل الدول المشاركة بالمؤتمر مع شكوى قبرص من تدفّق قوارب اللاجئين السوريين إلى الجزيرة انطلاقاً من شواطئ لبنان.
هنا تلفت أوساط مطّلعة إلى “دخول ملفّ النزوح السوري ضمن سلّة أيّ تسوية مرتقبة، ولا يمكن فصله عن أكبر الاستحقاقات
عمليّاً، يمكن القول إنّ بعض الدول التي ارتاحت في السنوات الماضية لـ”النقّ اللبناني على الخفيف” في ما يتعلّق بالكتلة البشرية السورية النازحة إلى لبنان منذ عام 2011، التي تعتبر غير مسبوقة في تاريخ الشعوب لجهة حجمها مقارنة بمساحة وعدد سكّان لبنان، بدأت تلحظ استنفاراً رسمياً لم يعد بإمكان دول القرار إدارة الظهر له تماماً.
مع ذلك، وعلى الرغم من مناخات التفاؤل التي يبثّها رئيس الحكومة ووزير الخارجية عبدالله بو حبيب استناداً إلى “تطمينات” الخارج، وعلى الرغم من الحراك الماراتونيّ الداخلي المتنقّل بين لجنة الدفاع النيابية واجتماعات السراي، وآخرها الاجتماع الوزاري والأمنيّ والقضائي أمس لبتّ مسألة ترحيل السجناء السوريين، فإنّ مصادر دبلوماسية تقلّل من إمكانية تغيير “الدول الراعية” للنزوح السوري لمقاربتها “المَصلَحيّة” في هذا الملفّ. وبالتأكيد لم يسمع ميقاتي من مفوّض الاتحاد الأوروبي لشؤون التوسّع والجوار أوليفر فارهلي الذي التقاه في بيروت ما يشير إلى عكس ذلك، خصوصاً لجهة الاستمرار في دعم الاتحاد الأوروبي للنازحين السوريين في لبنان والأردن وتركيا. وهو الموقف الذي سيتكرّر على الأرجح، وفق المصادر، خلال الزيارة المرتقبة لرئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون ديرلاين لبيروت بداية أيار، والتي ستعلن خلالها عن رزمة مساعدات ماليّة وسياسية للبنان لـ “مساعدته” في تحمّل عبء النزوح، مع اقتراحات عمليّة لمنع وصول المهاجرين السوريين من لبنان إلى قبرص التي يزور رئيسها نيكوس خريستودوليدس لبنان في الوقت نفسه.
قدّم أمس السفير المصري علاء موسى موجزاً لخلفيّة تحرّك الخماسية: “التسهيل بين الأطراف لتقريب وجهات النظر والردّ على استفساراتها”
هكذا يبدو المشهد اللبناني “من فوق” بالغ التعقيد والغموض ومترابطاً بشكل كبير: تهديدات إسرائيلية متزايدة بحرب وشيكة ضدّ لبنان، أوراق فرنسية وأميركية لترتيبات أمنيّة في جنوب لبنان غير متوافَق عليها حتى الآن، وأهمّ ما فيها أنّها تشمل بند تثبيت نقاط النزاع الحدودي مع إسرائيل و”خطّها الأحمر” رفض الحزب التراجع “بواقعه العسكري” غير المرئي إلى شمال الليطاني، تفاقم أزمة النزوح السوري التي تهدّد بالانفجار الكبير داخلياً، وعقم رئاسي لا تنفع معه “إبر” الخماسية ولا لقاءات باريس ولا العلاجات “المحلّية” كمبادرة تكتّل الاعتدال.
في هذا السياق، تفيد المعلومات بأنّ ما رشح من معطيات لرئاستَيْ الحكومة والنواب من حراك سفراء الخماسية أو ما سمعه ميقاتي مباشرة من الرئيس الفرنسي وحصيلة لقاء الموفد الرئاسي الأميركي آموس هوكستين والوسيط الفرنسي جان إيف لودريان في واشنطن، كلّ ذلك لا يشي بوجود مبادرة صلبة يُبنى عليها رئاسياً، خصوصاً أنّ الوضع في الجنوب بات يفرض أولويّته على جميع الملفّات.
هنا تلفت أوساط مطّلعة إلى “دخول ملفّ النزوح السوري ضمن سلّة أيّ تسوية مرتقبة، ولا يمكن فصله عن أكبر الاستحقاقات، من الوضع في الجنوب إلى رئاسة الجمهورية، وهذه المرّة عبر الدخول من البوّابة العريضة، أي التواصل الرسمي مع دمشق، من دون أن يُعرَف حتى الآن الخيط الفاصل بين مدى التجاوب السوري والضغط الدولي المُعاكس عبر إبقاء السوريين ورقة تفاوض ذهبية حين يحين أوان التسوية الكبرى”.