في العام 1989 و بعد حرب أهلية أليمة دامت حوالي 15 عاماً أسفرت عن مقتل حوالي 120 ألف شخص و إصابة 300 ألف و تشريد 76 ألف إضافةً الى 17 ألف مفقود، و بعد خسائر في البنية التحتية قدرت بنحو 25 مليار دولار، أبصرت “وثيقة الوفاق الوطني اللبناني” النور في مؤتمر عُقِدَ في مدينة الطائف السعودية بوساطة عربية و دولية، لتطوى بذلك صفحة حرب أهلية طاحنة كادت أن تقضي على كل شيء في وطنٍ يتقلب على نيران التغيّرات الصغيرة والكبيرة في محيطه.
بنتيجة هذا المؤتمر، خَفَتَ صوت الرصاص و عاد الهدوء الى شوارع لبنان… فالحرب توقفت بفضل “إتفاق الطائف” الإسم الذي تُعرف به وثيقة الوفاق الوطني اللبناني.
نصت أبرز بنود الإتفاق المذكور على إتخاذ كافة الإجراءات اللازمة لإجراء إصلاحات سياسية و إلغاء الطائفية و التمثيل الطائفي في التعيينات و التمثيل المتساوي في البرلمان بين المسلمين و المسيحيين و تشكيل مجلس شيوخ الذي يضم ممثلين عن المجتمعات المدنية… بإختصار لم يكن “الطائف” مظلمة للمسيحيين أو تميّز إسلاميّ إنما إتفاق قد أرسى الإنصاف للبنان و اللبنانيين رغم جحود المكابرين، و أغلق باب حروب الفتنة الطائفية و المذهبية بينهم.
لا يختلف إثنان في أن إتفاق الطائف أسهم فعلاً في وقف الحرب في لبنان، لكن تطبيقه الإنتقائي و تحريف بعض بنوده و إساءة فهم البعض الآخر، سمح لأمراء الحرب الذين أسهموا في خراب وتدمير لبنان، بالإنخراط والسيطرة مجدداً على مفاصل الدولة لكن هذه المرة ببدلاتٍ رسمية و أربطة عنق بدلاً من الزي الميليشيوي، لمعرفتهم بأن الرجل الذي يحمل حقيبة يستطيع أن يسرق أكثر من الرجل الذي يحمل سلاحاً.
هؤلاء أنفسهم لم تكن لديهم النية الصادقة في الإلتزام بنصوص وثيقة الطائف وتنفيذ كامل بنودها، بل أسهموا في تحويل إتفاق الطائف إلى صفقة محاصصة و إقتسام المغانم و الإستيلاء على الأملاك العامة و إرساء حكم الطوائف على الدولة ومؤسساتها، وقسّم لبنان شعوباً موقوتةً كالقنابل.
فلسفة “الطائف” قامت على تقليص صلاحيات رئيس الجمهورية لإرساء صيغة المشاركة في السلطة الإجرائية و توزيعها بين رئيس الجمهورية و مجلس الوزراء مجتمعاً ( المؤلف من كل الطوائف)، لتحقيق المشاركة بين المسلمين و المسيحيين.
و على نفس المنوال أعطى “الطائف” رئيس الجمهورية الحق بتسمية رئيس الحكومة بعد إستشارات ملزمة يجريها ويسمي فيها النواب الشخص الذي سيكلف تشكيل الحكومة فيكلفه رئيس الجمهورية ويؤلف الحكومة بالإتفاق مع الرئيس ويصدران مراسيمها معاً.
قبل الطائف كان رئيس الجمهورية لا يستطيع تشكيل حكومة من دون موافقة رئيس الحكومة، وبعد الطائف صار من غير الممكن تشكيل حكومة من دون موافقة رئيس الجمهورية.
هل أن دستور “الطائف” نص على أنه كلَّما أَلّفْنا حكومة علينا أن نُعيد تأليف لبنان؟
الطائف لم يعطِ الرئيس حق إقالة الحكومة ولم يحدد مهلة للإستشارات و التكليف و التأليف، لكنه حدد أن الحكومة تصير بحكم المستقيلة في حال إستقالة ثلث الوزراء، وهذا ما إعتبر ورقة يمكن أن يتمسك بها رئيس الجمهورية فلا يوافق على أية حكومة لا يكون له فيها ثلث عددها. وهذا ما صار يعرف بالثلث المعطل الذي إستخدم لاحقاً لتعطيل عمل الحكومة بدلاً من أن يكون ضمانة لعدم المس بالتوازنات.
دستور “الطائف” أيها السادة لم ينص على بدعة الثلث المعطل إنما تكلم عن ثلثين ضامنين: الأول إشتراط توافر نصاب الثلثين لإنعقاد جلسات مجلس الوزراء. والثاني إشتراط تصويت أكثرية الثلثين على القرارات في القضايا الأساسية والمصيرية، و الغاية من هذين الثلثين الضامنين، ضمان وحدة البلد والمشاركة الشاملة في القرار الوطني.
فلسفة الطائف لم تقم إذاً على نظرية الثلث المعطل بل على مسألة توازن السلطات وتفاعلها بشكل إيجابي، وعلى ترجمة الديمقراطية التي تفرزها الإنتخابات والتحالفات، لكن الممارسة خرجت عن هذا السياق إلى التعطيل السلبي.
ليس الطائف منزّهًا عن خطأ ولا معصومًا عن نقص ولكنه في سياق الأسس الميثاقية ضروري كركن من بناء الوطن في مبادئه ومن بناء الدولة في بنوده الاصلاحية الأخرى. ولا شيء يمنع اللبنانيين أو مواطني أيّ دولة من تعديل الدستور في حال وجدوا ثغرات، أو تحوّل الدستور إلى مُعطّل للنظام والحياة السياسية كما هي حال الدستور اللبناني الحالي، غير أنه إذا تسنى للبنانيين أن يجتمعوا في طائف رقم (2) فلا بدّ من أن يحتلّ طاولة حوارهم طائف رقم (1) توصلاً إلى محاولات التحديث في النصّ من دون الإنقلاب عليه.
إتفاق الطائف هو ميثاقنا الأخير، و ليس أبلغ من مقولة الرئيس الشهيد رشيد كرامي سنة 1976 عندما تعالت أصوات تقول ” مات الميثاق وقبرناه “، قال الرئيس الشهيد عن ميثاق 43 ” لنعمل كي نغنيه ولا نلغيه “.
إنّ “الطائف” يفترض تطبيقاً بحسن نيّة، بشكلٍ عام وأمام الأزمات السياسية المتلاحقة، لا يزال الإتفاق يشكّل ضمانةً للميثاقية، حيث أنّ الديمقراطية اللبنانية هي صيغة توافقية، طوائفية، تناصفيّة، مركّبة، سبقت قيام الدولة اللبنانية، إمتدت منذ نظام الملل العثماني ونظام القائمقاميتين والمتصرفية وفي إصلاحات شكيب أفندي، إلى أن ثبّتها الفرنسيون خلال الإنتداب، ثم كرّسها ميثاق وصيغة 1943، وفيما بعد “وثيقة الوفاق الوطني اللبناني” .
فلا يجوز المسّ بروح “الطائف” المعبّر عنه في مقدّمة الدستور، ولا يجوز تعديل أيّ من الثوابت المكرّسة في مقدّمته أو المسّ بالأعراف الدستورية القائمة على الميثاق الوطني .
إنّ ما يقتضي بحثه و تعديله في دستور “الطائف” في الوقت الراهن هو المواد المتعلّقة بآلية عمل المؤسسات الدستورية و تأمين حسن سير السلطات المحركة للدولة من دون أي تعطيل، و إن الشروع في هذه الخطوة ضروري لتفادي الفراغ في السلطة و لتجنب الشلل في مرافق الدولة و الحاجة الدائمة الى وساطة أجنبية كلما نشب صراع بين اللاعبين السياسيين اللبنانيين.
فإنّ وضع “دستور الطائف” بمنزلة الدستور المنزّل غير القابل للتطوير ، لا يتماشى مع الهدف المرجو من إقرار القوانين ، فلقد وُجد الدستور لخدمة المواطن والمجتمع وليس المواطن والمجتمع لخدمة الدستور.