دخلت إلى المشهد الرئاسي المعقّد تعقيدات إضافية تكشف حجم الترابط بين ما يجري على خطّ غزة-الجنوب وخطّ الرئاسة. فالكلام الذي أطلقه قبل أيام الأمين العامّ للحزب في شأن القرار 1701 قد يفرض نمطاً مغايراً في تعاطي المفاوض اللبناني مع الاقتراحات الدولية “المعروضة” عليه جنوباً. أكثر من ذلك، لم يكن الهجوم الصاعق الذي شنّه نصرالله على خصوم المقاومة ومناهضي الحرب سوى صليَة من الرسائل إلى جزء كبير من هؤلاء الخصوم “الميؤوس منهم”، كما قال، الذين يقفون “بالسياسة” على مقلب رئاسيّ مضادّ لتوجّه الحزب.
بعد تناغم ملموس طَبَعَ مرحلة ما بعد 8 تشرين الأول بين الحزب والحكومة حيال ما يجري في غزة والجنوب أطلق الأمين العامّ للحزب موقفاً متقدّماً لا يمكن التكهّن بمدى إلزاميّته للحكومة، حين طالب السلطات اللبنانية بوضع شروط على تنفيذ القرار 1701، وتثبيت معادلة “لا نقاش بترتيبات وضع الجنوب قبل نهاية حرب غزة، فيما جبهة لبنان ستستمرّ كجبهة إسناد حتى تحقيق الهدف، مهما كانت الضغوط والعروض، ومهما جاء الموفدون وراحوا”.
أطلق الأمين العامّ للحزب موقفاً متقدّماً لا يمكن التكهّن بمدى إلزاميّته للحكومة، حين طالب السلطات اللبنانية بوضع شروط على تنفيذ القرار 1701
تمايز بين الضاحية والسراي
موقف نصرالله المُستجِدّ بشأن 1701 يتمايز بوضوح مع موقف الرئيس نبيه بري الثابت من ضرورة التمسّك بالقرار 1701 بحرفيّته والذي برز بشكل أوضح بعد زيارة وزير الخارجية الفرنسي ستيفان سيغورنيه والوفد الفرنسي السياسي-الأمني لبيروت حيث تحدّث برّي أمام حاملي مشروع الترتيبات الأمنيّة على الحدود اللبنانية-الإسرائيلية عن “مرجعية حصرية لنا غير قابلة للتعديل واسمها القرار 1701“، كما بات يتمايز مع الموقف الرسمي الذي يعبّر عنه رئيس الحكومة ووزير الخارجية في شأن ضرورة تطبيق الـ 1701 وإلزام إسرائيل بتنفيذه بحرفيّته دون أيّ تعديل، فيما كشف وزير الخارجية عبدالله بو حبيب في حديثه إلى “الشرق الاوسط” عن أنّه “إذا كان هناك انسحاب إسرائيلي من الأراضي اللبنانية المحتلّة واتّفاق كامل، فإنّ الحزب سينسحب، لأنّ مبرّرات انتشاره في المنطقة الحدودية ستنتفي، ولأنّ الحزب لم يعترض على التنفيذ الكامل للقرار 1701“.
في هذا السياق تقول مصادر سياسية مطّلعة على ملفّ وضع الجنوب لـ “أساس”: “بعد فشل اجتماع القاهرة، عقب لقاء باريس غير المُنتج في ما يتعلّق بصفقة تبادل الأسرى ووقف إطلاق النار، وبعد التصعيد العسكري المتمادي والخطير جنوباً واضطرار الأمين العامّ للحزب إلى التحذير شخصياً من بعض الأخطاء التقنيّة القاتلة (الهواتف الخلويّة) والتحذير من الحرب النفسية في سياق الحرب المفتوحة مع غزة، لا يمكن سوى نعي ورقة الترتيبات الأمنيّة الفرنسية، المدعومة أميركياً بمضمونها، واستطراداً نعي أيّ مقترحات مُشابِهة”، مشيرة إلى أنّ “الحزب سبق أن أعلن عدم تجاوبه مع مضامين الورقة ربطاً بموقفه الثابت برفض النقاش في أيّ أمر قبل انتهاء حرب غزة، لكنّ الحزب يتعاطى معها فعليّاً بوصفها ورقة إسرائيلية بالكامل وساقطة، فيما لطّف الرئيس بري الموقف اللبناني الرسمي بالتأكيد على مرجعية القرار 1701“.
هنا بدا لافتاً ردّ نصرالله شخصياً للمرّة الأولى على ما قُدّم على أنّه ورقة فرنسية بالقول: “هناك من يأخذ الورقة الإسرائيلية ويتبنّاها بالمطلق وحرفيّاً، ويأتي إلى لبنان ويقدّمها لنا على أنّها ورقته، فلا تجد فيها شيئاً سوى أمن إسرائيل، ولا ذكر فيها لكلمة غزة”، قائلاً: “هذه ورقة تدفع فيها سلفاً، ويقولون لك: لاحقاً نتكلّم بمطالبك”.
“اليونيفيل” و”الرضوان”
أكثر من ذلك، وفي مفارقة لافتة سمع الرئيس برّي موقفاً مُطمئِناً من جانب “قوات اليونيفيل” لم يخرج بعد من الغرف المغلقة ومفاده: ” حتى نحن القوات الدولية العاملة في جنوب لبنان لا نعرف كيف يمكن تطبيق طلب إسرائيل انسحاب “قوّة الرضوان”، وهي فعليّاً قوات غير مرئية بواقعها العسكري، وهي أيضاً، كما فهمنا ولمسنا، جزء لا يتجزّأ من البيئة الاجتماعية في الجنوب”.
ماذا قَصَد السيّد؟
حتى الآن يقتصر الموقف المُعلَن للحزب من الطروحات الدولية وحركة الموفدين إلى بيروت على بعض المواقف المحدودة لقياداته في مجلس النواب والحكومة والمسؤولين الحزبيين وبعض القنوات الأمنيّة، لكنّ نصرالله ضمن سياق معادلته بأنّ “لبنان هو القويّ والإسرائيلي الضعيف والمهزوم والعالق بالمَشكَل”، رَسّمَ في خطابه الأخير الحدود للمرّة الأولى بين موقف الحزب وموقف الحكومة الرسمي قائلاً: “الموقف الرسمي اللبناني يقول بتطبيق القرار 1701. أنا أدعو الموقف الرسمي اللبناني إلى أن يَضَع شروطاً إضافية على الـ 1701 وليس فقط تطبيقه. لاحقاً نتكلّم بين بعضنا ونتفاوض، لكن أحببت أن أقول هذا الكلام كي لا يتصرّف أحد على أنّ لبنان ضعيف ومأزوم ويأتي من يفرض عليك الشروط ويأتي بمقياس المسافات 7 كلم و10 كلم وقبل النهر وبعد النهر”.
وفق معلومات “أساس” حاولت مرجعيات حكومية من خلال قنوات وسيطة مع الحزب الاستفهام من بعض قياديّي الحزب عن فحوى كلام نصرالله الأخير، خصوصاً أنّه قد يرتّب تداعيات على مسار التفاوض مع الفرنسي والأميركي والقطري والمصري في ظلّ سقوط الورقة الفرنسية ورفضها بالكامل من جانب الحزب وبرّي، ووسط انسداد كامل في أفق إرساء التسوية أو الحلّ الشامل في غزة.
غداً خطاب رئاسيّ لنصرالله
في خطابه الأخير تحدّث نصرالله أيضاً عن ملفّ “الرئاسة وموضوع المكاسب أو التوظيف السياسي الداخلي للجبهة الجنوبية أو الانتصار”، واصفاً إيّاه بـ “المهمّ جداً”، متوقّفاً عند مفارقة مفادها أنّ “من يقول لك إنّه لا جدوى من معركة الجنوب ويشدّ ظهره بأميركا وإسرائيل، ويُسلّم بأنّه الفريق المهزوم، يأتي ويسألك مسبقاً: هل توظّف انتصار المحور في الساحة الداخلية؟”.
وفق المعلومات سيَفرد نصرالله حيّزاً من خطابه غداً ليتحدّث في ملفّ الرئاسة للمرّة الأولى منذ اندلاع حرب غزة، فيما اقتصر الموقف المُعمّم حزبياً في الأشهر الماضية على الإشارة إلى فصل الحزب جبهة الجنوب عن الانتخابات الرئاسية و”لا مانع لدينا من دعوة الرئيس برّي إلى جلسات لانتخاب الرئيس مع التمسّك بمرشّحنا سليمان فرنجية”، وتتقاطع كلّ المعطيات عند التسليم بصعوبة تسليف الحزب ورقة الرئاسة لأيّ طرف داخلي أو خارجي قبل تلمّس نتائج التفاوض الإيراني-الأميركي والمشهدية التي سترسو عليها حرب غزة.
في المقابل، تعثّر تحرّك اللجنة الخماسية وتردّد الموفد الفرنسي جان إيف لودريان في القدوم إلى لبنان وسقوط الرهانات على خرق ستسجّله اللجنة الخماسية في الجدار الرئاسي كلّها مؤشّرات تؤكّد مدى ارتباط ملفّ الرئاسة بمفاتيح خارجية خارجة عن سيطرة رغبات الداخل أو أجندات بعض مرجعيّاته، في ظلّ أمر واقع لم يتغيّر حتى الآن قبل وبعد حرب غزة: داخلياً، موقف الحزب هو البوصلة في نجاح التسوية أو تعثّرها.